آسيا الكبري وتحديات اقتصاد المعرفة د. حسن أبوطالب حمل المنتدي العالمي للمعرفة الذي عقد في سيول منتصف الشهر الحالي في ثنايا أعماله ومناقشاته الكثير من الأفكار الخلاقة والمبدعة, وللتذكير فقد كان شعار المؤتمر التعاون الاقتصادي وآسيا الكبري, وهو ما أشرنا اليه تفصيلا في مقال الأسبوع الماضي. ورغم سطوة الأزمة المالية علي عدد من المحاضرات العامة وورش العمل في المنتدي, كان التفكير في اقتصاد المعرفة في ظل العولمة إحدي القضايا التي استحوذت علي جانب كبير من الحوارات, وكانت محاضرة ريتشارد ليفين رئيس جامعة ييل الأمريكية مفتاحا أساسيا لفهم العلاقة الجدلية بين التعليم وتراكم المعرفة وصنع الثروة, وحسب قوله فإن كانت المعرفة هي الثروة, فان الجامعات هي المصانع الحقيقية لهذه الثروة ومشيرا الي ان هناك الآن حالة تغير وتبدل جارية الحدوث في مواقع مراكز القوة المعرفية, اذ تنتقل من مواقعها القديمة في أوروبا والولاياتالمتحدة الي كل من الصين والهند وسنغافورة ودول أسيوية أخري, وهو مايطرح علي العالم إشكالية كبري تتعلق بكيف تكون المنافسة في ظل اقتصاد المعرفة. لكن ليفين استدرك قائلا انه حتي اللحظة ورغم التحدي الذي تواجهه الجامعات الأمريكية بوجه عام, الا انها مازالت في مقدمة النظام التعليمي في العالم, كما أنها تسود البحث العلمي من خلال تخصيص نسبة تقترب من2.5 من اجمالي الدخل القومي لأغراض البحث العلمي, فجامعة ييل وحدها تنفق2.5 بليون دولار سنويا, ولذا فالجامعات الأمريكية حسب ليفين مازالت هي المصانع الحقيقية للمعرفة في العالم ككل, عبر انتاجها لأفضل الطلاب الذين يقودون لاحقا قطاعات معرفية واقتصادية وتقنية عديدة في العالم كله. كانت رسالة رئيس جامعة ييل للحاضرين أن التعليم الأفضل هو الذي يقود الي انتاجية أفضل ومواجهة الأزمات بطريقة أفضل, كما يقود أيضا الي بلورة المواطن العولمي الذي يعتقد في مسئوليته وفي دوره في مواجهة قضايا العالم ككل وأزماته المختلفة, فالانسانية الأن باتت أقرب ماتكون الي وحدة واحدة, هذه الانسانية بحاجة إلي صيغ تعاون أكثر تحفيزا وانتاجية بين الجامعات في العالم ككل, لاسيما بناء برامج خاصة للتعليم في المناطق والاقتصادات الساعية للنهوض. الي جانب التعليم الجامعي كصناعة للتقدم والثروة طرحت مفاهيم الابداع والجرأة والتكيف باعتبارها مسارات باتت أكثر من ضرورية في اقتصاد المعرفة المعولم شديد التنافسية وشديد الانكشاف ايضا لمن لايلتزم دائما بالمعرفة المتجددة بأفاقها الرحبة. والإبداع هنا ليس مجرد فكرة مثيرة علي الورق, بل هي تجربة تحدت الواقع وأثبتت وجودها وقابليتها علي الاستمرار والتطور, وكانت هناك تجربتان تم عرضهما, الأولي: نموذج لمؤسسة اقتصادية والثانية: لعمل تطوعي تخطي الحدود, النموذج الأول تمثل في استعراض تجربة مجموعة فيرجن مع مؤسسها ورئيسها الحالي سير ريتشارد برانسون. وهي المجموعة التي بدأت بمغامرة محسوبة قبل ربع قرن لتسيير خط طيران جوي صغير بين احدي الولاياتالأمريكية وجزيرة صغيرة في الكاريبي, وإذا بها الآن تملك أسطولا جويا كبيرا يجوب القارات الخمس, فضلا عن200 شركة فرعية تعمل في الهاتف المحمول والفنادق والتمويل والترفيه, وجميعها تخطت أزمات الاقتصاد الدولي في العقدين الماضيين بنجاح كبير, وهي كمجموعة تعد نفسها الآن للدخول في صناعة الحفاظ علي البيئة. كانت رسالة برانسون ببساطة شديدة هي أن الابداع والحلول الخلاقة عاملان للتفوق والنمو والبقاء في عالم الأعمال الشرس, مع ضرورة الحساسية الشديدة للتغيرات التي تحدث في مزاج المستهلكين وتطلعاتهم. أما التجربة الثانية فتدخل تحت بند متعدد الأبعاد كالعلاقة بين الفن واستمرار الحياة والعمل التطوعي المتخطي للحدود, وفكرة المواطن العولمي الذي يستشعر مسئولية خاصة أمام ذوي الحاجة في أي مكان, هذه التجربة تمثلت في مبادرة الرقص من أجل الحياة, والتي أسسها قبل سنوات قليلة دينيس كاربس, ومن قبل أسس احدي ماركات ملابس الجينس الشهيرة التي تسود الأسواق العالمية, مستندا الي شعار ثلاثي قوامه تجارة منصفة وسعر عادل وصناعة صديقة للبيئة, ومبادرة الرقص من أجل الحياة التطوعية والعابرة للدول, أو التي لاتعرف الحدود, تعد تجسيدا للدور الذي يمكن ان تقوم به المبادرات الفردية في المجال الاجتماعي لدعم المحتاجين عبر العالم ككل, كما تجسد مفهوم المواطن العولمي, وهي مصممة أساسا لتوظيف وتعبئة مهارات الرقص الجماعي للشباب, والتي تتميز بها شعوب بذاتها كالشعوب الافريقية جنوب الصحراء من أجل توفير الموارد المالية للجهود الحكومية والدولية لمواجهة مرض الإيدز, وقد بدأت المبادرة في أربع دول افريقية قبل سنوات قليلة, وهي تضم الآن18 دولة, وتسعي المبادرة حاليا لضم عدد من الدول الآسيوية كإندونيسيا والفلبين وتايلاند للمشاركة في أنشطة تطوعية عالمية, لمساعدة جهود الحد من الفقر استنادا الي مبادرة الأممالمتحدة وخطة الألفية الثالثة, ولذلك نالت هذه المؤسسة الوليدة عددا من الجوائز العالمية رغم حداثة عهدها, لكنها دائما الأفكار المبدعة والأدوار الاجتماعية التي تهم الانسانية هي التي تضع المرء في القمة. ومن المبادرات التطوعية العابرة للحدود الي تجارب النمو الآسيوية ومستقبلها, حيث تضمن المنتدي ثلاث ورش عمل حول تجربة دول الآسيان كنموذج للعمل الاقتصادي الجماعي, ومستقبل النمو في الصين باعتبار أن الصين الآن هي محرك رئيسي للاقتصاد الدولي, ويعتقد كثيرون أنها مؤهلة لأن تكون القوة الاقتصادية الأولي في غضون عقدين أو ثلاثة علي الأكثر, وأن لها دورا أساسيا للخروج من الأزمة المالية العالمية الراهنة. والورشة الثالثة فكانت عن مستقبل النمو في الهند كاقتصاد صاعد, لكنه لايخلو من مشكلات بنيوية كبري, رغم أنه حقق الكثير في العشرية الماضية. وتبدو حالة الهند جديرة بالتوقف للحظات فالسؤال الذي طرحه السيد جاها نائب رئيس مجموعة تاتا الشهيرة لصناعة الصلب هو هل مايحدث في الهند فرصة للصعود والترقي أم أنها مجرد حالة عابرة قابلة للردة؟ والسؤال علي هذا النحو تطلب اجابة من شقين, الأول: يتعلق بالامكانيات التي لدي الهند, والثاني: يتعلق بالقيود التي يتوجب علي الهند أن تعاجلها إن أرادت وضع نفسها علي خريطة القوي الاقتصادية الكبري في القرن الحالي. وإذا كان للهند قدرة علي الصعود بالمعايير الجغرافية والسكانية والسياسية ومن حيث الموارد الطبيعية فإنها تواجه بعدد من التحديات الكبري تبدأ بمشكلة الديمقراطية التي تتطلب تطويرا جذريا, ومواجهة مشكلة الفقر الذي يصيب41% من السكان حسب بيانات البنك الدولي, وانخفاض مستوي التعليم, ومشكلة الصحة العامة, وندرة مياه الشرب والتضخم الذي يتجاوز12%. ان تطوير نهضة الهند حسب السيد جاها, تتطلب عددا من القواعد الصحيحة والمتكاملة معا منها تصحيح العلاقة بين الديمقراطية ووضع السياسات ذات الطابع الاستراتيجي أو بمعني آخر ايجاد صيغة لاستقرار الاستراتيجيات والسياسات بعيدة المدي رغم تغير الحكومات المركزية أو الاقليمية, واشاعة التسامح في المجتمع وايجاد علاقة ديناميكية بين الهند كبلد قديم الجذور, وبين تشكيل أمة شابة خلاقة طموحة, وعقل ابداعي وروح تنظيمية علي مستوي المجتمع ككل, وانشاء هياكل ونظم مالية قوية ومتطورة, ورفع نسبة الادخار المحلي والمتصور هنا أن ماتتطلبه نهضة الهند تتطلبه نهضة أمم أخري عديدة ويبقي الأمل مرهونا في ارادة, سياسية ومجتمعية تحول القيود الي فرص خلاقة. ولايخفي جاها ان هناك العديد من عناصر القلق في داخل نموذج النمو الهندي, فمازالت البنية الأساسية أقل من المطلوب وقطاع الأعمال يفتقد لنموذج نمو واضح المعالم, وهناك نقص في وسائل حل المشكلات, واستمرار الحكومة في التحكم في الجزء الأكبر من الاستثمارات, وتباين أخلاقيات العمل بين الولايات الهندية وبعضها مما يخلق مشاكل عديدة, واستمرار نسبة عجز الموازنة العامة في حدود4.6%, أما النظام القضائي فمازال بطيئا وبحاجة الي تطور هائل ناهيك عن أن الهند لاتحصل علي استثمارات خارجية كبيرة, اذ تستقطب دول مجموعة الاسيان التسع النسبة الأكبر من هذه الاستثمارات التي تتوجه الي البلدان الاسيوية بوجه عام. وبالطبع سيكون للازمة المالية الراهنة تأثيرها علي نموذج النمو الهندي والذي سيعاني علي الأرجح ضغوط التضخم والذي بدوره سيؤثر علي نسبة انفاق الطبقة الوسطي, التي تمثل بدورها أحد محركات النمو في التجربة الهندية, ولذا ليس أمام الهند كما دول آسيوية أخري سوي تجويد مستوي التنافسية لمنتجاتها وسلعها, فضلا عن التعاون في إيجاد المعرفة التي هي أساس الاقتصاد الدولي البازغ. عن صحيفة الاهرام المصرية 29/10/2008