ثقافة السلام في المنطقة سليمان تقي الدين يصعب الحديث عن ثقافة السلام في منطقة الشرق الأَوسط، ما دمنا لم نطوِ ذيول المرحلة الاستعمارية. كانت لدينا مشكلة معقدة جداً نجمت عن الاستيطان الصهيوني لفلسطين، وصارت لنا الآن مشكلة الاحتلال الامريكي المباشر للعراق والسيطرة غير المباشرة على منطقة الخليج كلها، لا سيما بواسطة القواعد العسكرية. وفي الحالين، تأخذ المسائل طابعاً أبعد من السياسة، خاصة في ظل الأفكار الرائجة عن صراع الحضارات. في فلسطين، كما كان يقول الرئيس شارل حلو، هناك “صراع آلهة"، حول القدس ومرجعيتها الدينية، حول الأرض نفسها وجغرافيتها التوراتية: هل هي الضفة الغربية لنهر الأردن أم يهودا والسامرة؟ وفوق ذلك، حول مستقبل كيان سياسي يربط حقوق المواطنة بالدين. إن “إسرائيل" تعكف الآن على إِعداد دستورها على أساس أن مُواطن هذه الدولة هو اليهودي، ما يطرح مسألة حقوق عرب ال 1948 ومصيرهم. أما الحضور الأمريكي في المنطقة فهو جزء من صليبية جديدة بنظر جزء من التيارات السياسية، التي ترى فيه تدنيساً للأماكن المقدسة بحسب ما ترى السلفية، وتجعل من مواجهة هذا الوجود فريضة دينية جهادية. وهذا الوجود العسكري الغربي يضع في رأس أهدافه ومهماته، كما هو معلن، مكافحة “التطرف" و"التشدد" و"الأصولية" و"السلفية" و"الإرهاب". وهذه صفات باتت تقريباً منذ انطلاقة الثورة الإيرانية، تلتصق بالحركات السياسية الإسلامية، من وجهة النظر الغربيةوالأمريكية تحديداً. من المفترض أن العولمة هي مسار تاريخي تقدمي سلمي لتوحيد هذا الكوكب، في حين أن الولاياتالمتحدة، تسعى إلى استتباع العالم في محاولة حثيثة لتعميم ثقافة معينة منشئة إمبريالية جديدة تستدعي بالضرورة عناصر الممانعة والمقاومة من جميع الخصوصيات. ولا تصدر هذه المقاومة عن الشعوب المستضعَفة فقط، بل بدأت ترسم ملامح تحديات كبرى تصدر عن دول لها مكانتها الدولية اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، من غير أن تكون قادرة على امتلاك المستوى نفسه من القدرات العسكرية الموازية. وهذا ما أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي في فبراير/شباط الماضي. ولعل أخطر ما يطعن في مفهوم السلم وفي ثقافة السلم، هذا التجاوز المتمادي على القوانين الدولية وعلى الهيئة الأكثر أهمية في رعاية السلم الدولي، ونعني بها هيئة الأممالمتحدة. لقد كانت هذه المنظمة الدولية المرجع الأساس الذي يجسد التوازنات الدولية ويصوغها في ما يشبه الإرادة العالمية حفاظاً على السلم والأمن منذ الحرب الكونية الثانية. نشهد الآن تراجعاً كبيراً في دور هذه الهيئة أو المؤسسة، أمام تعبيرات القوة المفرطة التي تجلت في التدخلات العسكرية الأمريكية. على أي حال، ليست هذه كل القضايا التي تهدد ثقافة السلام. ذلك أن المنطقة المحيطة بنا هي “سجادة عجمية" متعددة الخيوط والألوان، وهي مزيج من ثقافات تاريخية متعاقبة. وهذه الثقافات ما زالت تحرك الكثير من النزاعات، بحيث تتقاطع الديانات السماوية الثلاث، وتفرعاتها المذهبية، مع تجمع كبير من الأعراق والقوميات، وترتسم فوق كيانات حقوقية وسياسية، نعني الدول التي لا تتطابق في مكوناتها الدينية أو العرقية مع حدود الدولة فيها. إن الدول التي ارتسمت حدودها في القرن العشرين، في النظام الدولي الذي انبثق عن الحرب الكونية الثانية، وقد نالنا منه “اتفاق سايكس بيكو" “ووعد بلفور"، لم توفر الاستقرار لشعوبها. لقد كان وجود “اسرائيل" عنصراً محرضاً أساسياً لنزاعات، وباعثاً لأيديولوجيات ولظواهر رافقت ذلك كالنزاعات العسكرية، وطبعاً الانقسامات والصراعات الفكرية والسياسية. فمن صعود القومية العربية، الى صعود الاسلام السياسي، شهدنا فصولاً من العنف السياسي، ومن التعبئة الكفاحية المناهضة لثقافة السلام. عندما دخل العرب في مرحلة الواقعية والمحافظة (وهي مرحلة قبول التسوية والسلام)، بعد الموجة القومية التحررية الرومانسية، أواخر السبعينات، لم يساعد العالم على استثمار هذا المنحى العربي، أو هذا التوجه، لحل مشاكل المنطقة وفقاً للقرارات الدولية أو عبر التفاوض السياسي والدبلوماسية. انتقلنا بعد ذلك من الثقافة القومية العربية شبه العلمانية التي تنطوي على مساحات واسعة ومفتوحة لاستيعاب التنوع الثقافي، الى مرحلة الثقافة الاسلاموية الأكثر مركزية وحصرية، وهي ثقافة نابذة عملياً للتعددية الثقافية، وهي شأن كل ثقافة حصرية تذهب الى احتكار الحقيقة باعتبارها مؤسسة على ركيزة دينية. هكذا تبدو المنطقة الآن في دوامة “ثقافية" صراعية وصدامية عنيفة. إن تقوية عناصر ثقافة السلام في المنطقة تستدعي فك الاشتباك المسلح بين الشرق والغرب، بل بين العالم الاسلامي والغرب. والمدخل الاساسي لذلك هو في تصحيح الخطأ التاريخي الذي حصل في فلسطين بحل مشكلة اليهود على حساب الشعب الفلسطيني، وذلك بإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية، وايجاد تسوية مشرفة حول القدس. كما ينبغي أن يعيد الغرب النظر في علاقته بمنطقة الشرق الأوسط على قاعدة البحث عن المصالح المشتركة، فلا تتحول مسألة السيطرة على النفط إلى سبب لتطوير ايديولوجيا معادية لسكان المنطقة ولثقافتهم الاسلامية. ولا يمكن تطويع الاسلام السياسي بالعنف كوسيلة لفرض السيطرة. على عكس ذلك، يشكل الحوار بين الثقافات والمصالح مدخلاً رئيسياً لصياغة علاقات متكافئة ولإدماج ثقافة المنطقة في النسيج العالمي المعاصر، بدلاً من استنفارها واستفزازها وتحويلها الى ثقافة صلبة. لكن ثقافة السلام لا تقتصر على صراعات الدول، بل هي تشكل مسألة اساسية داخل المجتمعات. فلا يمكن لأنظمة الاستبداد ان تعزز ثقافة السلام، بل هي تدفع الى حروب أهلية أو حروب طبقية، وأحياناً مذهبية وجهوية. فلا يمكن لثقافة السلام أن تزدهر إلا في مجتمعات منفتحة تُبنى على الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة. كلما جرى حبس الجمهور داخل نُظُم لا تسمح بتداول السلطة سلمياً وتمنع الحريات الأساسية، تعززت ثقافة العنف. إن محيطنا العربي يشكو على هذا الصعيد، فما زلنا نعيش في وضع يفتقر المواطن فيه الى كثير من الحريات والحقوق. ولا يشكل استخدام بعض الوسائل الديمقراطية كالانتخاب، نقضاً لهذا الواقع لأن الجميع يعرف ان الحق الانتخابي مقيَّد بألف قيد وقيد، في ظل غياب حقيقي لدولة القانون، وهذا أمر يختلف تماماً عن الحكم بواسطة القانون. إن ما يعوز ثقافة السلام هو تخطي الحروب، ونشر الديمقراطية والحرية، وبناء دولة القانون، وتعزيز حقوق المواطَنة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 5/11/2007