الأمن النووي المصري؟! مكرم محمد أحمد لا تكمن أهمية القرار الذي أعلنه الرئيس مبارك بإحياء برنامج مصر النووي في أنه سوف يساعد مصر علي تشكيل حزمة بدائل صحيحة ومتكاملة تمكنها من تغطية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة التي تنمو بمعدل7% سنويا, وتثقل كاهل الخزانة المصرية بعد أن وصل سعر برميل البترول إلي ما يجاوز90 دولارا, ووصل حجم الدعم البترولي الذي تنفقه مصر إلي ما يتجاوز43 مليار جنيه, تساوي حجم الانفاق علي خدمات الصحة والتعليم والثقافة في بلد محدود الموارد, ولا تكمن أهمية هذا القرار الاستراتيجي المهم في أنه فقط سوف يفتح الطريق أمام مصر لدخول عصر التكنولوجيا النووية التي أصبحت قاسما مشتركا للارتقاء بقدرة مصر الانتاجية في مجالات الزراعة والصناعة وتخليق الأدوية الحديثة وتحسين مستويات الجودة والإتقان, لكن الأهمية الكبري لقرار إحياء البرنامج النووي المصري في أنه سوف يساعد علي تعزيز أمن مصر الوطني, ويسد جزءا من هذه الفجوة الواسعة بين مصر وإسرائيل التي تملك قدرة نووية كبيرة مكنتها من تصنيع أكثر من مائتي قنبلة نووية, وساعدتها علي اقتحام صناعات عديدة حديثة في مجالات عسكرية ومدنية متعددة, كما مكنتها من النهوض بالبحث العلمي في ميادين عديدة, تشكل الآن الطريق الصحيح إلي انجاز تقدم حقيقي يطرد علي نحو مستمر اعتمادا علي قدرته الذاتية علي التطوير والبحث والابتكار. وإذا كان صحيحا أن الظروف التي دفعت مصر إلي تعليق برنامجهاالنووي اثر حادث تفجير مفاعل تشرنوبيل عام86 قد تغيرت علي نحو شامل بظهور أجيال جديدة من المفاعلات النووية التي يتوافر فيها نظم متتابعة من أحزمة الأمان تعمل علي نحو ذاتي ودون تدخل بشري لإغلاق المفاعل لحظة الخطر, وتضمن إنتاج طاقة نظيفة تخلو من الانبعاثات الكربونية التي تسمم الغلاف الجوي لكوكبناالأرضي أكثر آمانا وأقل كلفة يصبح من الضروري لمصر أن تسارع خطواتها علي هذا الطريق كي تعوض ما فاتها. وقد تكون نقطة البدء الصحيح إعادة تشكيل المجلس الأعلي للطاقة النووية الذي ينبغي أن يظل تحت رئاسة القيادة السياسية, ويشارك في عضويته عدد من العلماء والمتخصصين وخبراء الطاقة ليستأنف مهامه علي نحو أكثرانتظاما, وأول مهام هذا المجلس هو مراجعةالبرنامج النووي المصري الذي رسمت خطوطه العريضة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات الذي يقوم علي إنشاء ثماني محطات نووية لتوليد الطاقة الكهربائية قدرة كل منها ألف ميجاوات في ضوء التقييم الحقيقي والواقعي لحجم المخزون من الاحتياطيات البترولية والغازية في الأمد الزمني المنظور والأمد البعيد دون تهويل, خصوصا في ظل التضارب بين التقديرات الوطنية والتقديرات العالمية, وإعادة تجميع وتنظيم القدرات المصرية البشرية والخبرات المصرية العالمية التي هاجرت لتعمل في بقاع كثيرة من عالمنا بعد توقف البرنامج المصري, ولاتزال تمثل ثروة بشرية ضخمة في هذا المجال قل أن يتوافر مثيل لها في أي دولة نامية يمكن أن تساعد مصر في إنجاز برنامجها النووي ولا أتخيل مجلس أعلي للطاقة في مصر لايكون ضمن عضويته د. أحمد زويل أو محمد مصطفي البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة والذي ربما يتعرض لضغوط أمريكية ضخمة تستهدف انهاء التجديد له خصوصا في ظل إصراره علي أن التفاوض المباشر بين واشنطن وطهران يكاد يكون أكثر الحلول واقعية وأمنا لتسوية الملف النووي الإيراني. وسوف يدخل ضمن مهام المجلس الأعلي الجديد للطاقة, تخطيط استراتيجيات المستقبل في مجال الطاقة النووية وإقرارها واعطاء البرنامج النووي المصري أولوية قصوي في التنفيذ, وإزالة العقبات التي تحول دون حصول مصر علي التكنولوجيات النووية وتطبيقاتها الحديثة في مجال الاستخدمات السلمية للطاقة, وتنظيم دخولها في هذا المجال علي نحو مخطط ومنظم يسمح بحجم متزايد من التصنيع المحلي للمحطات النووية, كما هو الحال في الهند, التي بدأنا معها مشوار إستخدام الطاقة السلمية خلال الستينيات من القرن الماضي خطوة خطوة غير أننا توقفنا في بداية الطريق لأسباب عديدة لا مجال الآن للخوض فيها, وأصبحنا علي حالنا الراهن محلك سر, علي حين تستطيع الهند الآن تصنيع مفاعلاتها النووية بكفاءة عالية دون اللجوء إلي خبرات الخارج. والأمر المؤكد أن مصر لن تبدأ من فراغ, لأنها سوف تبني علي جهود كثيرة سابقة وفرت لمصر قاعدة مهمة من المعرفة النووية تجعلها أكثر قدرة علي تحديد احتياجاتها الحقيقية, وتمكنهامن حسن المفاضلة بين البدائل المختلفة, وتجعلها قادرة علي توفير فريق عمل متكامل من العلماء والخبراء المتخصصين في مجالات الرياضيات الحديثة والفيزياء والطبيعة والهندسة النووية بما يمكنها من استئناف برنامجها النووي في مدة قياسية رغم فترة الانقطاع الطويل, خصوصا ان مصر حرصت علي ان تظل جزءا من منظومة العمل الدولي المهتمة بقضية الطاقة, تشارك في عضوية كل المؤسسات واللجان الدولية, وتقوم بدور نشيط علي كل المستويات الفنية والتنظيمية والقانونية الدولية في هذه المجالات, كما وقعت مصر عددا كبيرا من اتفاقات التعاون النووي مع فرنساوالولاياتالمتحدة وألمانيا وكندا وبلجيكا واستراليا لاتزال سارية المفعول أسهمت في تدريب وتأهيل أكثر من فريق عمل متكامل متنوع التخصصات ولاتزال مصر إلي الآن أكبر دولة نامية تحصل علي معونة فنية من الوكالة الدولية للطاقة, كما رأست أكثر من مرة لجنة ضمان الإمداد النووي التابعة للوكالة الدولية, والتي تعد أهم لجانها لأنها معنية بوصول المعدات والمواد وكميات الوقود النووي التي ترسل إلي الدول التي تملك محطات نووية, وعلي مستوي الواقع العملي تمكنت مصر من تحقيق عدد من الإنجازات العلمية والبحثية المهمة في مجالات الاستخدام السلمي للطاقة النووية لمقاومة الآفات الزراعية خصوصا ذبابة الفاكهة, ووظفت ابتكاراتها من النظائر المشعة في عدد من الصناعات المهمة لتحسين جودة الإنتاج في مجال صناعة الصلب, كما أجرت عملية مسح شامل لقدرة43 مؤسسة صناعية مصرية تستطيع زيادة اسهام التصنيع المحلي في بناء المحطات النووية, وترتبط مصر باتفاقات دولية مع ست دول منتجة للوقود النووي تضمن امداد المفاعلات المصرية بالوقود علي نحو منتظم وفرا للنفقات, لأن بناء معامل لتخصيب اليورانيوم يتطلب إنفاقا باهظا. وما من شك في أن إحياء مصر لبرنامجها النووي سوف يواجه بصعوبات وعراقيل, يتعلق معظمها بالمخاوف المتزايدة في الداخل والخارج من أن يفتح البرنامج النووي المصري بابا للتدخل الدولي في شئون مصر بدعوي الرقابة علي أنشطتها النووية, أو بسبب العراقيل التي يمكن أن تصل إلي حد التآمر, والتي ربما يتسبب فيها دول ومؤسسات تكره أن يكون لمصر برنامجها النووي الذي قد يساعد علي تضييق الفجوة التكنولوجية مع إسرائيل في هذا المجال أو ترويج بعض الدعاوي الخبيثة التي تهدف إلي أن يكون بناء المحطات النووية في مصر مجرد عمل استثماري ينهض بهذه المشروعات مستثمرون أجانب ومصريون لأسباب محض تجارية بدعوي توفير المتاعب التي يمكن أن يجلبها مشروع مصري, نووي وطني يرتبط بأمن مصر القومي, ويقوم علي أكتاف المصريين, ويسهم في تحديث مجالات الإنتاج والتصنيع يخطو بمصر خطوة عملاقة علي طريق تطبيقات التكنولوجيا النووية, بحيث يكون الهدف مجرد مشروع تجاري لتوليد الكهرباء يدر أرباحا ضخمة علي المستثمرين الأجانب ووكلائهم في الداخل, وأظن أن هذه القضية تشكل نقطة فارقة وأساسية في تقويم طبيعة البرنامج المصري النووي وأهدافه الحقيقية. وما من شك في أن ثمة دورا إقليميا مهما يمكن أن يلعبه البرنامج النووي المصري في توازنات المنطقة في ظل تواجد برنامج نووي إيراني يسعي إلي إقامة12 محطة نووية في إيران, وفي ظل تواجد برنامج نووي إسرائيلي يجسد المعايير المزدوجة التي يرفضها العالم, التي أصبحت عبئا ثقيلا علي سلام الشرق الأوسط واستقراره, خصوصا أن المنطقة, تشهد خلال العقدين القادمين عددا من البرامج النووية الطموحة غير البرنامج الإيراني, أبرزها البرنامج التركي الذي يرفع حجم إسهام الطاقة النووية في احتياجات تركيا من الكهرباء إلي30%, وإسرائيل التي تشرع الآن في بناء محطة نووية ثالثة في منطقة شفتا علي الحدود المصرية الإسرائيلية لتحلية مياه البحر وإنتاج الكهرباء, وليبيا التي تعتقد أنها الأكثر استحقاقا بعد أن قامت طوعا بتسليم الولاياتالمتحدة برنامجها النووي الذي اشترت مكوناته من الشبكة السرية للعالم النووي الباكستاني عبد القدير خان, وهو لم يزل في صناديقه المغلقة. وأظن أن البرنامج النووي المصري يشكل أكثر البرامج الوطنية ارتباطا بأمن مصر الوطني والاقليمي, لأن التفاوت الضخم بين قدرات مصر النووية, وقدرات إسرائيل يمثل أحد أهم عوامل الضعف التي أدت إلي إضعاف الجهود الرامية لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية, وهو هدف استراتيجي لمصر يصعب في غياب تحقيقه أن تنعم مصر بالأمن الكامل مع امتلاك إسرائيل المتفرد لأكثر من200 قنبلة نووية ذات قدرات تفجيرية متباينة إضافة لتملكها كل وسائل إيصال هذه القنابل من الطائرات والصواريخ والغواصات إلي أي من الأهداف التي تريدها في الشرق الأوسط ابتداء من باكستان شرقا إلي المحيط الأطلسي غربا!... وبرغم المساندة الدولية لجهود مصر في هذا المجال لا يزال مشروع إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية يقف محلك سر لم يدخل بعد دائرة التفاوض الجاد, ولم يحقق علي مستوي التنفيذ خطوة واحدة إلي الأمام لسبب رئيسي هو غياب التكافؤ في القدرات النووية الإقليمية, لأن التكافؤ حتي, وإن كان نسبيا في القدرات الإقليمية كان السبب الرئيسي في نجاح معظم عمليات إنشاء مناطق خالية من السلاح النووي في أماكن عديدة من العالم ولن تقبل إسرائيل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي استجابة لنداء الضمير العالمي, أو تحت ضغوط الرأي العالمي, أو نزولا علي قرارات تصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة, ولكنها يمكن أن تستجيب فقط أذا أدركت أن التفاوت بين قدراتها النووية والقدرات النووية الأخري في الإقليم في طريقه إلي التناقص والزوال. ولا يتعلق الأمر بضرورة وجود برنامج مصري عسكري نووي لمصر, لأن مصر لا تستهدف ذلك ولا تضعه ضمن خططها في الأمد الزمني القريب أو البعيد, لأن مصر داعية سلام, بنت مكانتها الدولية علي هذا الدور.., ومع ذلك فإن تعزيز قدرة مصر النووية يشكل في حد ذاته رادعا نوويا قويا, لأن قيمة البرنامج النووي لا ترتبط فقط بوجود سلاح نووي, ولكنها ترتبط اساسا بمدي قدرة الوطن علي استيعاب التكنولوجيات النووية, وما من شك في أن وجود هذا العدد الكبير من البرامج النووية في منطقة الشرق الأوسط يمثل عنصرا جديدا ومتغيرا أساسيا يؤثر إيجابا علي مشروع مصر لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية, خصوصا مع تزايد اعتراض العالم علي المعايير المزدوجة التي كرستها معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي لا يتوافر لها أبسط عالمية المعاهدة وشمولها, الأمر الذي جعل منها أسوأ المعاهدات السياسية في تاريخ البشرية لأنها تضع الدول التي قبلت المعاهدة وشاركت في التصديق عليها وفتحت محطاتها النووية لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة تحت سيف العقوبات التي يمكن أن تصل إلي حد التدخل العسكري, كما حدث في العراق تحت ذريعة عدم الشفافية, علي حين تركت العنان لدول أخري أبرزها إسرائيل تفعل ما تشاء, وتبني قدراتها العسكرية النووية علي مسمع العالم أجمع دون رقيب أو حسيب, كما أبقت علي الدول غير الحائزة للسلاح النووي تحت رحمة الدول النووية التي لم تبذل أي جهد مخلص للتخلص من ترساناتها النووية علي عكس ما وعدت به بنود المعاهدة. إن أي مصري وطني لا يملك سوي أن يقول شكرا للرئيس مبارك علي قراره الاستراتيجي المهم الذي يفتح آفاقا واسعة لتصحيح الخلل الجسيم الذي نشأ من التفاوت الواسع المدي بين قدرة مصر وقدرة إسرائيل النووية. عن صحيفة الاهرام المصرية 3/11/2007