بين أميركا وأفغانستان .. تجلّيات الأفول والانبعاث خليل العناني إحدى حسنات الأزمة المالية العالمية، وهي قليلة، أنها تعيد تعريف العلاقات بين النماذج الحضارية الموجودة حالياً على نحو جليّ. وتبدو هذه الأزمة كما لو كانت لحظة «مليودرامية» كاشفة انقشع فيها غبار «النفاق» الإيديولوجي الذي غلّف أطروحات حوار الحضارات التي حاول الطرفان العربي والغربي امتطاءها تسييراً لمصالح استراتيجية ستظل هي الأبقى في ديناميات العلاقة بين الطرفين. فالأزمة على شمولها، عطفاً على التشابك العولمي «القسري» اقتصادياً وتقنياً وتكنولوجياً، لا يراها البعض إلا «غربية» فقط، وهي بالنسبة اليهم ليست مجرد أزمة مالية عابرة، شأنها في ذلك شأن غيرها من الأزمات التي وقعت طيلة القرن الماضي، وإنما بالأحرى هي أزمة «أبدية» قد تمثل إرهاصات أفولٍٍ حضاري للغرب والولاياتالمتحدة. بيد أن الصورة لا تكتمل من دون النظر الى بقية أركانها، فلعلّها الأقدار وحدها تلك التي تجمع الآن بين «أفول» الولاياتالمتحدة، بحسب تمنيّات البعض، و «انبعاث» أفغانستان، كدولة من القرون الوسطى تأبى أن تدخل عصر الحداثة والمدنية. ولا يوازي «سقوط» أبراج المال والاقتصاد الغربية، ومعهما النموذج الحضاري ذاته، في كارثيته وعدميته، سوى «نهوض» حركة «طالبان»، ونموذجها «اللادولتّي»، واضطراد الحديث عن سعي أطراف إقليمية ودولية للتفاوض معها تمهيداً لعودتها شريكاً في الحكم. وبين الأفول والانبعاث، تقبع دلالات حضارية كاشفة لعمق المسافة التي باتت تفصل بين نموذجين حضارييْن يسير كلاهما عكس الأخر، وتجسدّهما، وللمفارقة، حالتا أميركا وأفغانستان. فمنذ أواخر السبعينات وحتى الآن مرّ هذان البلدان بثلاث دورات متمايزة من التحوّل. بدأت أولاها أميركياً بصعود نجم المحافظين الجدد وسيطرتهم على البيت الأبيض تحت زعامة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، في الوقت الذي كان فيه «الثوران» الإسلامي يشق طريقه بين أودية وكهوف أفغانستان التي ترعرع فيها جيل من «الجهاديين» يتزعمهم فيلق من العرب سيثبت التاريخ لاحقاً أنه كان يعدّ العدّة للانقضاض على «مملكة الشر» الأخرى المتمددة غرباً. ورغم التعاون «المصلحي» بين الطرفين طيلة الثمانينات، وانضوائهما معاً تحت يافطة محاربة الشيوعية، كلٌ حسب مصالحه وأهدافه، إلا أن ذلك لم يفض إلى تطوير أية علاقة «حضارية» بينهما، فلا أفغانستان دخلت عصر الحداثة «السياسية»، فضلاً عن التقنية والاقتصادية، ولا الولاياتالمتحدة اقتنعت بجدوى إعادة بنائها على غرار ما فعلت من قبل مع اليابان وألمانيا. وقد انتهى عصر «البراغماتية» هذا، بأفول «موقت» لكلا الطرفين (المحافظون الجدد والأفغان العرب)، وكأن غياب العدو «المشترك» قد خلق فراغاً معنوياً واستراتيجياً سيكون على كليهما محاولة ملئه لاحقاً، كلٌ حسب طريقته. الدورة الثانية جاءت خلال عقد التسعينات حين بدا أن ثمة مواجهة هي واقعة لا محالة بين كلا الطرفين اللذين انهمكا في إعادة بناء صفوفهما. فانبرى المحافظون الجدد في تعبئة أتباعهم قولاً وعملاً، ناقمين على حقبة بيل كلينتون التي أفرطت فى التهاون مع الجهاديين (لنتذكر كل ما يُشاع من أن الرئيس كلينتون تردد فى إلقاء القبض على بن لادن بعد أن حددت الاستخبارات المركزية الأميركية مكانه)، فضلاً عن انتقادهم المتكرر لتعطيل ماكينة «القطبية الأحادية». ولم تحِلّ الألفية الثالثة ويصل الرئيس جورج دبليو بوش الى البيت الأبيض حتى باتت أسماء مثل روبرت كيغان ووليم كريستول وبروث جاكسون ودانييل بابيس وفرانسيس فوكوياما وماكس بوت ودوغلاس فيث وبول وولفوفيتز أشهر من لاعبي كرة القدم. وهم الذين «اختطفوا» السياسة الخارجية الأميركية، بعدما اختطف مهاجمو الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 طائراتهم لضرب برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون. فيما نجحت حركة «طالبان» في اختطاف أفغانستان من بين أصابع أمراء الحرب الأهلية، وأعادتها للأفغان العرب من خلال تأسيس تنظيم «القاعدة»، كي تلألئ نجوم «جهادية» مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ومعهما قائمة طويلة من «الأفغان العرب» أمثال أبو حفص المصري وسليمان أبو الغيث وأبو عبيدالله البنشيري، وأبو الليث الليبي، ورمزي بن الشيبة وخالد الشيخ محمد، كي تنتهي هذه الدورة بأيدي محمد عطا ورفاقه. أما الدورة الثالثة فقد بدأت بشن الولاياتالمتحدة حربها على أفغانستان، ومحاولة اقتلاع شأفة «القاعديين» ومن عاونهم من الأفغان والشبكات المحلية في آسيا وأوروبا فى إطار ما يُسمي بالحرب على الإرهاب. وفيما بدا حينئذ وكأنه صعود مدوٍ لزمرة المحافظين الجدد، بدا وكأنه خفوت لنجم «طالبان» وحلفائها من العرب و «البشتون». الآن وبعد ثماني سنوات كاملة من حكم الجمهوريين وتألقهم، تعود الكرّة من جديد، فيتوارى تدريجاً نجم المحافظين الجدد، فيما تواجه بقيتهم الآن نهاية تراجيدية بفعل الأزمة المالية الطاحنة التي يراها البعض نتاجاً طبيعياً لسياساتهم الاقتصادية. يقابل ذلك انبعاث جديد لحركة «طالبان»، وصعود لأسماء توهم البعض خطأ أنها قد طويت تحت وطأة القصف الأميركي لأفغانستان، وستصبح جميعها نجوماً للمرحلة القادمة أمثال الملا محمد عمر وقلب الدين حكمتيار وجلال الدين حقاني.. إلخ. وبتوسيع الرؤية أكثر، يمكن القول إن ما يحدث الآن ليس مجرد نهاية ل «الحقبة الريغانية» في الولاياتالمتحدة بكل عوراتها، وعودة ل «الحقبة الطالبانية» فى أفغانستان بكل مآسيها، وإنما بالأحرى هو خفوت لنموذج «الدولة الأحادية» التي سعت لفرض نموذجها وهيمنتها عنفاً وقسراً، مقابل صعود لنموذج «ما قبل الدولة» كما تجسده «طالبان» في أفغانستان. وتبدو الأزمة الراهنة كما لو كانت كابوساً حضارياً يطارد الجميع، ما يستوجب التوقف أمام دلالاتها «الرمزية» وأولها أن زمرة المحافظين الجدد، وجميعهم حمقى، تخيّلوا لوهلة أن اقتلاع تنظيم «القاعدة» قد يكون كفيلاً بتحويل أفغانستان من دولة من القرون الوسطى إلى دولة حديثة قد تدخل عصر السماوات المفتوحة وتتشرب ثقافة الانترنت والهواتف النقّالة، وهي التي لا يزال شعبها يهوى العيش في الكهوف بدلاً من المنازل. وقد هُيئ لبعضهم أن ضخ مليارات الدولارات في حكومة حامد كرزاي كفيل بإحضار المدنية لبلد يعتاش أهله من تجارة الأفيون. في حين يبدو إخفاق ما يقرب من 56 ألف جندي من قوات التحالف فى إنهاء حال التمرد التي تقودها «طالبان»، دليل فشل ذريع في فهم ديناميات العلاقة بين ثلاثية (الدين والطبيعة والمجتمع) في دولة مثل أفغانستان. وقد بدت محاولات «عصرنة» أفغانستان وانتشالها من غياهب التخلف والعدمية، أشبه بقيادة سيارة ليكزس في وديان وكهوف كابول وقندهار. وثاني الدلالات أن الأفول الأميركي، ومعه الغربي تباعاً، بقدر ما هو دليل تأزم حضاري، إلا أن «انبعاث» أفغانستان على النحو الذي تركته عليها «طالبان» قبل سبع سنوات، وربما أسوأ، يعد بذاته «انتحاراً» حضارياً لا يضاهيه فداحة سوى مطالبة إحدى بلدان أوروبا الشرقية بالعودة إلى الحظيرة الروسية الآن. وثالثتها أن الغرب، ورغم عثرات نموذجه إجرائيا وإيديولوجياً، إلا أنه لا يزال الأقدر على الاعتراف بأخطائه وتصحيحها، وهو قد فعلها مراراً طيلة القرن الماضي، في حين ترزح أفغانستان، ومن يدور في فلكها فكرياً وقيمياً، تحت وطأة إيديولوجيا «التفوق» العدمي Lost Superiority تلك التي لا تقدم نموذجاً حضارياً بديلاً بقدر ما تسعى إلى تحطيم غيرها من النماذج. وهي رغبة لن تتوقف حتى يمتطي أهل نيويورك البعير بدلاً من السيارات. وإذا كان المؤرخ البريطاني المعروف بول كينيدي، ومن قبله إريك هوبزاوم، قد تنبآ ضمناً باحتمالات حدوث «أفولٍ» أميركي، وذلك حسب نظرية الدورة التاريخية للقوى العظمى صعوداً وهبوطاً، إلا أنهما، فضلاً عن غيرهما من المؤرخين، سوف يقفان مشدوهين أمام البحث عن تفسيرٍ لصعود وانبعاث دول «ماضوية» تعيش فشلاً حداثياً، وذلك على غرار الوضع الآن في أفغانستان وغالب الظن أنهم لن يفلحوا. لذا وبدلاً من أن يهلّل البعض لعودة «طالبان» من جديد، فقط لمجرد النكاية بالغرب، عليه أن يحزن للحال المأسوية التي وصلت إليها خياراتنا السياسية والحضارية، بحيث نبدو الآن عالقين بين دولة فوضوية تعيش على ثقافة القرون الوسطى، وأخرى تتبدى عوراتها على الملأ حالياً، وذلك من دون القدرة على طرح نموذج بديل لكليهما. إن أزمة النموذج الغربي هي ذاتها أزمتنا كذوات إنسانية تبحث عن مأوى حضاري «بديل»، وهي أزمة سوف يخرج الجميع منها خاسراً، باستثناء أولئك القابعين في كهوف أفغانستان التي تنبعث حرارتها الآن. عن صحيفة الحياة 22/10/2008