بعد خمسة أعوام تقريبا من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، وبالرغم من تواطؤ بعض الدول المحيطة بها، خاصة باكستان وإيران، لازالت حركة طالبان تقاوم الوجود الأمريكي والأطلسي والقوى الأفغانية المعادية لحركتها. ولا يخفى على كل متتبع للشأن الأفغاني، أن حركة طالبان مهما قيل عنها، طورت نفسها ونهجها من مرحلة حرب العصابات التي شنتها منذ ديسمبر/ 2001 ضد المحتلين وعملائه، لتنتقل إلى مرحلة أخرى أكثر تنظيما في المواجهة المسلحة المنتشرة في العديد من المناطق، تعتمد هذه المرة على عامل جديد وخطير: "الانتفاضة الشعبية". شكلت الانتفاضة الشعبية في كابل في 29 مايو 2006 نقلة نوعية في الحرب الأفغانية ضد قوات الحلف الأطلسي بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية الوجود العسكري الأمريكي (23 ألف جندي) وقوات حلف ناتو حوالي 11 ألف جندي، فقد كشفت عن مدي عداء الشعب للوجود الأجنبي وللحكومة التي نصبتها واشنطن، التي تعتبر في نظرهم عميلة جيء بها لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة. "انتفاضة كابل" الشعبية، أحدثت كما أقر ذلك أغلب المحللين الشرارة التي حركت من يطلق عليهم "الأغلبية الصامتة" في ثورة عنيفة، تشير ملامحها السياسية الأولى إلى أن الوجود الأجنبي عموما والأمريكي خصوصا يمثل كل ما هو بغيض في نفسية الأفغاني المتشددة العاشقة للحرية، وبعد تبخر كل وعود القوي الغربيةالمحتلة في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي ونشر الأمن والاستقرار، وهي الأمور التي تثبت كذب وعود الإصلاح. رد الفعل الأمريكي العنيف ضد المتظاهرين العزل زاد الوضع اشتعالا، وضاعف من حدة كراهية الشعب للاحتلال الذي كان سببا في سقوط -خلال ساعات- في كابل وبرصاص هؤلاء أكثر من 50 قتيلا وجريحا من المدنيين، ودفع إلى واجهة الأحداث في أفغانستان، بروز مجموعات مقاومة داخل العاصمة المحصنة لا تنتمي إلى حركة طالبان على الأقل من الناحية التنظيمية وإن كان يجمعهما الانتماء العرقي إلى "الباشتون"، الذين يشكلون أكثر من 55 % من مجموع السكان. عدد من المختصين في الشؤون الأفغانية أكدوا أن محاولة واشنطن وحلفائها تغيير تقاليد وعادات الشعب وإجبار النساء علي نزع "التشادور" ونشر الأفلام الخليعة والمخدرات والمشروبات إلي غير ذلك من المظاهر السلبية التي لا تليق بالمجتمع الأفغاني المحافظ. ولدت ثورة ورفضا شعبيا حتى من جانب الأفغان الذين كانوا يناهضون حركة طالبان لأسباب سياسية أو عرقية. لأول مرة منذ سنة 2001 تاريخ بدء الاحتلال، لم يستطع تحالف أمريكا الناتو الحكومة الأفغانية السيطرة علي الوضع الأمني، واضطر إلي فرض حظر التجول، فتقارير الجيش الأمريكي، ووكالة المخابرات الأمريكية، تسرب بعض محتوياتها إلي الصحف الأمريكية تعترف بان ما حدث في كابل كان بوادر هبة شعبية وصفت بأنها الأخطر منذ سقوط نظام طالبان. دلالات الانتفاضة الشعبية، جاءت إعلانا إستراتيجيا لبداية فشل المشروع الأمريكي في أفغانستان، وبداية نهاية عقيدة "الحرب العالمية على الإرهاب" وأفول نجمها، لان الأحداث جاءت ضمن مرحلة باتت فيها حركة طالبان صاحبة اليد القوية والنفوذ الواسع في أقاليم متعددة صارت تسيطر عليها. ومنذ بداية سنة 2006 أخذت حركة طالبان تتحرك طولا وعرضا في أفغانستان بحرية أكبر، لأن الشعب بدأ يتغاضي عن تحركاتها ليفسح لها المجال لمهاجمة القوات الأجنبية، ولتجنيد المزيد من المقاتلين وتوسيع دائرة الهجمات، وهكذا استطاعت الحركة خلال أشهر معدودة السيطرة بشكل شبه كامل علي الولايات الجنوبية الغربية الأفغانية. قائد القوات الأمريكية في أفغانستان الجنرال "أيكنبري"، أرجع السبب الرئيسي لازدياد أعمال العنف وانتشارها، وانتكاسة قوات الأمن الأفغانية إلى "ضعف مؤسسات وأجهزة الدولة الأفغانية والتي تركت مناطق بكاملها دون أن تبسط الدولة عليها سيطرتها". يقول العميد "إيد باتلر"، قائد القوات البريطانية في أفغانستان: "القبلية هي قلب المجتمع في أفغانستان وكذلك تجارة المخدرات، وهي أصل النزاعات على الماء والأراضي والمخدرات، إنه مستنقع في غاية التشعب والتعقيد، و80 في المائة من العنف لا علاقة لها في الحقيقة بحركة التمرد"، مضيفاً: "الحكومة الضعيفة هي المشكلة. واليوم علينا دعم الأوضاع الأمنية التي من شأنها توفير الوقت والمجال لتطور العملية السياسية". ويحذر العميد باتلر من التباطؤ في اتخاذ القرارات القوية التي تشعر المواطنين الأفغان بالأمن: "علينا التحرك أكثر وتغيير الأوضاع، إنه خطر حقيقي ألا يشعر الناس بالأمن طيلة عام، فحينها قد نفقد رضاهم". من جهته، يقول العقيد محمد حسين، ممثل وزارة الداخلية المكلف بالتنسيق مع القوات الكندية بقندهار: "إن الفساد الأفغاني يشبه طنجرة ضغط وصلت إلى نقطة الانفجار، ولذلك علينا أن نبعدها عن النار"، مضيفاً: "إن المدنيين مستعدون للتعاون مع القوات المعارضة للحكومة لأنهم يرون أن الحكومة فاسدة ولا تستطيع القيام بشيء من أجلهم"، ويحذر العقيد محمد حسين من عاقبة استمرار الحال وعدم تغيره، إذ يقول: "عندما لم تكن الحكومة الشيوعية جيدة، جاء المجاهدون. وعندما فشلوا، جاء "طالبان"، ولا أدري من سيأتي بعد هذه الحكومة، غير أنها بصدد فقدان ثقة الشعب". وجاء في تقارير يومية أعدتها مراسلة يومية "نيويورك تايمز" الأميركية في المنطقة، كارلوتا غال، وهي تقارير تلقفتها المواقع والمنتديات الجهادية في الانترنت، الإعلان عن "سقوط المدن الرئيسية في أفغانستان" في يد حركة طالبان، حسب مراسلة اليومية الأمريكية، وذلك بعد أن "أصبح لقوات طالبان، وجود قتالي في كل ولايات أفغانستان من دون استثناء".. و"باتت ثلاث ولايات في متناول يد طالبان، وهي أوروزغان وهلمند وقندهار، وهناك ثلاث ولايات أخرى أصبحت طالبان تسيطر على أجزاء منها، وهي زابول وغازني وباكتيكا"، فالحركة أبرز المرشحين للإطاحة بقوات الاحتلال الأمريكي والغربي على المدى القريب. وقد أجمعت أغلب التقارير الصحفية في التناول الإعلامي العسكري على أن ربيع 2006 شَهِد أقسى المواجهات بين طالبان والقوات الأفغانية والأجنبية منذ الإطاحة بنظام حركة "طالبان" قبل خمس سنوات. وصرح وزير الخارجية الأفغاني "رانجين دادفار سبانتا"، أن "قادة طالبان يعيشون في باكستان، ويديرون العمليات الإرهابية ضد بلاده انطلاقا منها"، فهذا تصريح لا علاقة له البتة بما يثار إعلاميا في داخل أفغانستان أو في أروقة البيت الأبيض أو كواليس الأممالمتحدة ب"نجاح القوات الدولية لحفظ الاستقرار"، أو ب"استقرار أو النمو الإيجابي لمؤسسات وأجهزة الدولة الأفغانية"، فلا يوجد أفضل اعتراف من شهادة أبرز وزير في الحكومة الأفغانية. عمليات طالبان لم تتوقف منذ مجيء القوات الأمريكية والأطلسي إلي البلاد، لكنها شهدت تصعيدا ملحوظا بعد احتلال العراق عام 2003، ومنذ عام 2004 ازدادت العمليات الاستشهادية والتفجيرات المفخخة والاستيلاء على المدن والقرى، إضافة إلي حرب العصابات التي تحسن استخدامها. وكانت قيادة حركة طالبان ومن أجل بسط نفوذها في أفغانستان، واسترجاع الحكم، أقرت بإرسالها مجموعات كبيرة من عناصرها إلى العراق للتدريب على آخر تقنيات حرب العصابات المنظمة، واكتساب مهارات صنع السيارات المفخخة، والأحزمة المتفجرة، والصواريخ الموجهة، وهي التقنيات ذاتها التي كانت تستعملها المقاومة العراقية، خصوصا تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. حكومة حميد كرزاي "قزمت" من حجم المقاومة الشعبية، في معرض ردها على الأسئلة المتعلقة بازدياد العمليات العسكرية خلال الفترة الأخيرة ضد القوات الدولية في أفغانستان وقوات الأمن الأفغانية المختلفة، متهمة عصابات مهربي المخدرات والإجرام والغوغائيين، وكذلك العنف المستشري بين أوساط الشعب الأفغاني الذي لم يرى أي شيء تغير منذ سقوط حكومة طالبان، وتدني الأحوال المعيشية، وفقدان الأمن، رافضة بشدة الربط بين تصاعد العنف المسلح والعمليات "الإرهابية" التي تشهدها أفغانستان، وتصاعد نجم وقوة "طالبان". "لا تظنون، أن ما يحدث حاليا في أفغانستان هو فقط "تمرد" لحركة طالبان، إنها انتفاضة شعبية ضد الوجود الأجنبي، وهو محل إجماع أغلب أطياف الشعب الأفغاني"، تصريح أدلى به القائد الطالباني (جول محمد) إلى موقع (Asia Times Online) في مقاطعة "زابل" ، وهي رؤية تنمو عن الواقع الجديد في الصراع الأفغاني. على الصعيد الخارجي، استعادت حركة طالبان جزءا كبيرا من الدعم الذي تقدمه لها بعض الأطراف القبلية والسياسية المنتمية إلى "الباشتون" في باكستان، ومنها جهات عسكرية واستخباراتية معروفة، التي كانت تدعمها منذ ظهورها على الساحة الأفغانية في بداية التسعينيات إلى غاية سنة 2001 تاريخ أحداث سبتمبر. القائد الميداني العسكري في حركة الطالبان الملا داد الله، الذي كذب التصريحات الأمريكية والأفغانية باعتقاله، ظهر في إحدى القنوات العربية "الجزيرة"، ليعلن بصريح العبارة أن "دولا لها مصلحة في اندحار الولاياتالمتحدة قدمت دعما عسكريا". أخيرا، ثمة عدة قضايا ستكون ذات أهمية حال تمكن حركة طالبان من العودة مجددا إلى الحكم، أولا: هل ستلاحق الحركة تحالف الشمال الذي أطاح بحكمها بعد تحالفه عسكريا مع الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ وثانيا: هل سيكون مصير تحالف الشمال التنقل إلى طاجكستان لإعادة تشكيل معارضة جديدة من هناك بمساعدات أجنبية لمحاولة الإطاحة بالحركة مرة أخرى؟ وثالثا: ما هو الدور الجديد الذي ستلعبه القاعدة في أفغانستان؟ وهل ستصبح قاعدة استقطاب للعمل "الجهادي" أو "الإرهابي" الداعم للجماعات الإسلامية المسلحة في العالم الإسلامي والعربي؟ رابعا وأخيرا: أي فصيل سيكون المسيطر داخل طالبان؟ فهناك عدة وجهات متأثرة بالعوامل الداخلية التي تهم أفغانستان بالدرجة الأولى، والعوامل الخارجية التي تهم القاعدة كونها الممول الأساسي للحركة، كما أن هناك بعض الخلافات السياسية المطروحة بين قادة طالبان، أو البعض منهم على الأقل، الذين لا ينظرون بعين الرضا إلى نفوذ القاعدة عموما وأسامة بن لادن على الملا محمد عمر المصدر : العصر