الاستراتيجيَّة التي أقرَّتها دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" مؤخرًا لبدء سحب قواتها من مناطق العمليَّات في أفغانستان ابتداءً من مطلع العام المقبل (2011م) على أن تعيد معظم جنودها إلى بلدانهم خلال 4 سنوات، وبتوقيعها اتفاقًا مع الرئيس الأفغاني حامد كرزاي لنقل قيادة الأعمال القتاليَّة تدريجيًّا إلى الجيش الأفغاني مطلع 2011م وتسليمها كامل المسئوليَّة الأمنيَّة بنهاية 2014م، مع التعهُّد بدعم حكومة كابول على المدى البعيد، لمنع هزيمتها أمام حركة "طالبان"... هذه الاستراتيجيَّة جاءت متأخرةً كثيرًا، وقد اضطرَّت الدول الغربيَّة لإقرارها بعد أن تأكَّدت وبعد أن استقر في ضمير قادتها العسكريين والسياسيين أن تحقيق النصر الحاسم على حركة "طالبان" ودحرها والقضاء عليها إنما هو حلم شبه مستحيل ولن يتحقَّق مهما طالت أعوام العدوان الغربي على أفغانستان، ومهما حشدت هذه الدول من جيوش وأسلحة متقدِّمة، ومهما رصدتْ من ميزانيَّات لدعم عدوانها على هذه الدولة الفقيرة. كنا متيقنين تمامًا من هذه النهاية، وسجَّلنا هذا اليقين مراتٍ عديدةً على صفحات هذا الموقع الكريم، واليوم نؤكِّد أن هذه النهاية الطبيعيَّة كانت لها أسباب منطقيَّة وبدهيَّة أراد الغربيون التقليل من شأنها مرتكنين على قوتهم العسكريَّة، لكنهم في النهاية اقتنعوا بها وأدركوا أهميتها الكبرى واستسلموا لها. أول بديهيَّات فشل العدوان الغربي الصليبي الاحتلالي أنه عدوان غاشم وغادر انطلق تنفيسًا لكراهية وحقد دفين على شعب مسلم فقير، والنتيجة الطبيعيَّة للعدوان الذي قتل مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء وهدم منازلهم ودمر مرافق بلادهم وخرّب اقتصادهم، النتيجة الطبيعيَّة هي أن يلجأ هؤلاء المظلومون إلى كل صور وأشكال المقاومة لتحرير بلادهم ورفع الظلم عن أنفسهم، أراد الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة الأمريكيَّة أن يكذب ويشوّه الحقائق وأن يأخذ الشعب الأفغاني بجريمة لم يرتكبْها، ولكن في النهاية لم يستطع هؤلاء الغزاة المحتلون، رغم بعض الأهداف الخبيثة التي حققوها، أن يغيِّروا شيئًا من طبيعة عدوانهم الغاشم ومن كون ما قاموا به غزوًا وحشيًّا مجرمًا يستحق الازدراء والإدانة والمقاومة. وثاني هذه البديهيَّات أن طبيعة الشعب الأفغاني تجعل له خصوصيَّة في تصديه لأي عدوان على بلاده، فالشعب الأفغاني من أصلب شعوب العالم عودًا وأكثرهم إباءً وحبًّا للجهاد والمقاومة، وتاريخه في منازلة أكبر قوتين استعماريتين عرفهما العالم (الاستعمار البريطاني والاستعمار الروسي السوفيتي) ودحرهما وإلحاق الهزيمة بهما مسجل ومعروف، وقد حاولت الولاياتالمتحدة ومعها الدول الغربيَّة الالتفاف على هذه الحقيقة والارتكان إلى خطورة ووحشيَّة وقوة الترسانة العسكريَّة الغربيَّة، ولكن هيهات، فحقائق التاريخ ودروسه تبقى ثوابت لا يمكن للقوة الغاشمة الظالمة أن تغيرها. وثالث هذه البديهيات أن قوى الظلم والاستكبار والعدوان الغربية يمكنها أن تكذب على شعوب العالم كله، إلا أنها لا يمكنها أن تكذب على شعوبها الغربيَّة نفسها، فالإعلام الغربي يكذب ويتفنن في الكذب، طالما كان الأمر يتعلَّق بمصالح الغرب التي تتحقق على حساب الآخرين، وهو يخفي الحقائق طالما كانت الجرائم ترتكب في حق شعوب غير غربيَّة، أما إذا تعلَّق الأمر بقتلى غربيين وبنزيف دم غربي ونعوش تصل تباعًا إلى العواصم الغربيَّة المشتركة في العدوان وبآلاف المصابين الذين تعجُّ بهم المستشفيات الغربيَّة وكذلك بآلاف المعاقين والمرضى النفسيين الغربيين، فإن هذا الإعلام الغربي لا يستطيع أن يكذب أو أن يخفي الحقائق. وهكذا تكوَّن رأي عام غربي أوجدَتْه ضغوط الخسائر البشرية الغربيَّة، يضغط على الحكومات المشاركة في العدوان كي تنسحب من المستنقع الأفغاني وكي لا تعيد إرسال الجنود الغربيين إلى ساحات القتل في الجبال الأفغانيَّة، ولأن حلف شمال الأطلسي لم يستطعْ تحقيق أهدافه العسكريَّة في أفغانستان وإنما استطاعت المقاومة الأفغانيَّة بقيادة "طالبان" فرض كلمتها وأسلوبها وجرّ القوات الغربيَّة إلى معارك استنزاف طويلة وغرس أقدامهم بصورة أكبر في مستنقع لا يعرفون كيف يخرجون منه، هنا وجد الغربيون أنفسهم طرفًا مفعولًا به وليس فاعلًا، وأدركوا أن المعارك القصيرة التي يجيدونها ليس لها مجال في واقع تحسمه حرب عصابات وكرّ وفرّ واستدراج يفرض حربًا شديدة الطول، ولم تنفع محاولاتهم المستمرَّة طيلة تسع سنوات لحسم الحرب لصالحهم، عندها فاءوا على رشدهم واتخذوا القرار الأوحد والصحيح، وهو الانسحاب. هناك بعض الدول الغربيَّة التي حدّدت موعِدًا ثابتًا للخُروج من أفغانستان، مثل كندا وهولندا (التي سحبت قواتها من أفغانستان العام الحالي بعدما انهارت الحكومة في فبراير بسبب الحرب) كما أعلنت بعض البلدان أنها ستنهي عمل بعثاتها هناك قبل 2014م. جاءت استراتيجيَّة الانسحاب بعد أن تأكَّد حلف شمال الأطلسي وقواته أن العام الأخير من الاحتلال الغربي لأفغانستان كان أشدّ الأعوام وطأةً وأكثرها خسائر في صفوف قوَّات الاحتلال، وهو الأمر الذي جعل أحلام النصر تتلاشى وتتأكد بدلًا منها حقائق الفشل، فقد قتل حوالي 2200 عسكري أجنبي في أفغانستان منذ اجتياح هذا البلد بقيادة أمريكيَّة في بداية عام 2002م، كان منهم قرابة 600 جندي وضابط في هذا العام فقط. وقبل يومين من سفر أوباما إلى لشبونة للقاء نظرائه في قمة دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" كان سلفه بوش ينتقد "بعض الحلفاء" لأنهم خذلوا أمريكا في أفغانستان، إذ تبين أنهم "ليسوا راغبين في القتال" وهذا تأكيد كبير من مؤجِّج العدوان ومؤسِّسه على أن الدول الغربيَّة تريد الخروج من المستنقع الأفغاني بأي وضع وتحت أي ظرف. لكن ليس معنى قرار الانسحاب أن الأمور قد حسمت لصالح الجهاد والمجاهدين ولصالح حركة "طالبان"، وإنما المكر الغربي والالتفاف الأمريكي يفرضان على المقاومة الأفغانيَّة الاستمرار في استهداف الوجود الغربي الاحتلالي طالما وجد جندي غربي واحد، ولعلَّ تصريح المسئول الأمريكي الرفيع أثناء قمة "الناتو" بلشبونة أن بلاده لم تتخذ قرارًا بعد حول ما إذا كانت ستنهي عملياتها القتاليَّة في أفغانستان بنهاية 2014م، وكذلك إعلان الأمين العام ل "الناتو" أندرس فوج راسموسن التوصُّل إلى اتفاق مع موسكو لنقل معدات إلى أفغانستان عبر الأراضي الروسيَّة بواسطة السكة الحديد، ووصفه موافقة روسيا على تعزيز حركة نقل المعدات لجبهات القتال في أفغانستان بأنه "نقطة تحوُّل تاريخيَّة".. هذان التصريحان يؤكِّدان أن استراتيجيَّة الانسحاب شيءٌ وأن الواقع على الأرض شيءٌ آخر تمامًا. فإذا كانت استراتيجيَّة الخروج من أفغانستان تهدف إلى نقل تدريجي للمسئوليَّة الأمنيَّة إلى الجيش الأفغاني بحلول 2014م، وإلى شراكة أطلسيَّة طويلة الأمد مع نظام الرئيس كرزاي الموالي للاحتلال الغربي حتى بعد انتهاء المهام القتاليَّة لقوات "الناتو" على حدّ تأكيد أمين عام حلف شمال الأطلسي، فإن القوات الدوليَّة المحتلة ستقوم خلال المرحلة الانتقاليَّة بتقديم الدعم للجيش الأفغاني حتى ولو لم تكن في الجبهات الأماميَّة. قول أمين عام حلف شمال الأطلسي: "إننا باقون بعد الفترة الانتقاليَّة في دور مساند.. وإذا كانت طالبان أو غيرها تأمل في رحيلنا فلتنسَ الأمر.. سنبقى طالما كان ذلك ضروريًّا لإنهاء العمل".. هذا الكلام يؤكِّد أن القوم سيستمرون في القيام بنفس الدور الذي يقومون به الآن، ربما ينسحبون من مواقع القتال الأماميَّة حتى لا يفقدون جنودهم، ولكنهم سيدفعون بقوات أفغانيَّة للقيام بأدوارهم السابقة وينتظرون هم يراقبون ويدربون ويقدمون السلاح والمعلومات الاستخباريَّة، وسوف تكون أجهزة رصدهم وطائراتهم بدون طيار موجودة للدعم والمساندة. ستبقى قوات الاحتلال الغربيَّة موجودةً لدعم نظامهم السياسي العميل الذي أقاموه لتحقيق أغراضهم، فالقوم ليسوا سُذَّجًا لينسحبوا تمامًا عام 2014م ويتركوا أعوانهم بدون دعم، لأن معنى ذلك أن نظام كرزاي الهشّ سوف يختفي خلال أيام فقط وستعود "طالبان" أقوى مما كانت، وهذا السيناريو لا يمكن أن توافق عليه الحكومات الغربيَّة أبدًا. إن استراتيجيَّة الانسحاب قد تم بناؤها على أساس أن استمرار تنفيذ نقل القيادة للسلطات الأفغانيَّة يمنح بعض الدول المشاركة في العدوان فرصًا جيدة لتقليص قواتها وسحبها، لكن استمرار التسليم لن يتم إلا إذا سارت الأمور بهدوء كما يريد حلف شمال الأطلسي، إما إذا قويتْ عمليات "طلبان" واضطربت الأمور فإن الموقف سينقلب رأسًا على عقب وستصبح خطة القوم أمام اختبارات شديدة الصعوبة. إن القاعدة الأساسيَّة التي كانت عقيدة التدخُّل الأطلسي الغربي في شئون الدول الأخرى تقوم عليها هي أن تدخل هذه القوات معًا وأن تخرج معًا، فيبدأ الحلفاء المهمَّة في وقت واحد ولا يضعون السلاح إلا بعد انتهاء كلِّ شيء، لكن استعجال كل دولة لسحب قواتها والهروب يضرب هذه القاعدة في مقتل. لقد بنى القوم استراتيجيتَهم على أساس أن عمليَّة التسليم والتسلم ستبدأ في 2011م، وإذا سارت الأمور على ما يرام فستنتهي في 2014م، فكلما عمَّ السلام تقدمت العمليَّة في أقاليم أكثر، ومن ثَمَّ تنتقل قوات الحلف إلى مهام قتالية أخرى أو مهام تدريب بالجيش الأفغاني أو العودة لأوطانها، إلا أن هذه مجرد رؤية نظريَّة يصعب تنفيذها على أرض الواقع، فالعديد من الفرق المشاركة في قوات ال "ناتو" تعمل في ظلّ أوامر من حكوماتها تقصر انتشار تلك القوات في مناطق معيَّنة في أفغانستان، وهي المناطق الأكثر أمانًا في العادة. كما أن القول بإمكانيَّة تقليص حجم القوَّات في مكان ما في أفغانستان وإرسالها إلى مناطق الصراع الرئيسيَّة في قندهار وهلمند وبقيَّة المناطق التي تقوى فيها "طالبان"، إنما هو قول نظري أيضًا يصعب تنفيذُه، وهكذا فإن عمليَّة التسليم والتسليم يمكن أن تتحوَّل إلى قنبلة سياسيَّة، إذا ما تمكَّنَت عناصر المقاومة من تكبيد الجيش الأفغاني هزيمة موجعة. إن فرضيَّة أن القوم سيكونون أمام موقف أمني يتحسن باستمرار أو مستقرّ، تجعل دول الحلف منعدمة الخيارات إذا قويت عمليات المقاومة الأفغانيَّة، فلن يكون أمام قوات ال "ناتو" من خيار سوى إعلان نقل المسئوليَّات بغضّ النظر عما سيكون عليه الموقف. وهذا بدوره سيثير شكوكًا حول تعهد قمة ال "ناتو" بأن الحلف سيوفِّر الدعم لأفغانستان بعد 2014م، فإذا لم يحدث تقدم في الموقف الأمني فإن الحكومة الأفغانيَّة ستكون عاجزةً عن السيطرة على أراضيها مع وجود الفساد الذي يضرب في جذورها، وفي ظلّ هذه الظروف سيكون استمرار وجود قوات ال "ناتو" أكثر صعوبة. وحتى إذا تمكَّن الموالون للحلف في أفغانستان من الصمود في مواجهة المقاومة الأفغانيَّة، فإن الحلف سيجد نفسه بين نارين، الحاجة الأمنيَّة لدعم الحكومة الأفغانيَّة والحاجة للخروج من الأزمة الاقتصاديَّة، والذي يتطلَّب تقليص التكاليف بقدر الإمكان، ومع الأخذ في الاعتبار الضغوط التي تدفع الحلف لعدم التخلي عن أفغانستان بعد الانسحاب، فإنه سيكون هناك توجُّه قوي للاستمرار في تقديم مساعدة تنموية وموارد مدنيَّة، لكن الأزمة الاقتصاديَّة وموارد الموازنة المحدودة سيجعلان ذلك ممكنًا لمدة عامين فقط، كما يتوقَّع كثير من المحلِّلين الغربيين. المصدر: الاسلام اليوم