سياسة مصر الإقليمية بين الاستراتيجية والأهواء السياسية حسن نافعة عادة ما تلعب المعطيات الجيوستراتيجية دورا بالغ الأهمية في تحديد ثوابت السياسة الخارجية للدول. ويبدو الدور الذي تلعبه هذه المعطيات، في تقديري، أشد وضوحا وحسما في الحالة المصرية منه في حالات أخرى نظرا لارتباطه العضوي بوظائف حيوية يتعين على الدولة الاضطلاع بها وفي مقدمها المحافظة على حياة الشعوب وبقائها، من ناحية، وتحقيق أمنها وسلامتها واستقرارها، من ناحية أخرى. وفي ما يتعلق بوظيفة المحافظة على الحياة والبقاء survival، يمكن القول إن الجغرافيا السياسية تطرح على مصر جملة من المعضلات: 1- فمصر دولة زراعية مطلوب منها توفير الغذاء لشعب يتزايد باضطراد ويبلغ تعداده الآن 75 مليون نسمة. 2- ومساحة الأراضي القابلة للزراعة فيها لا تتجاوز 5 في المئة من مساحتها الإجمالية. 3- والزراعة فيها تعتمد بالكامل على مياه الري، بسبب ضعف معدلات سقوط الأمطار من ناحية، ومحدودية مصادر المياه الجوفية المتجددة والقابلة للاستخدام في الزراعة من ناحية أخرى. 4- ومصادر المياه اللازمة لري الأراضي القابلة للزراعة فيها تقع على بعد آلاف الأميال وراء حدودها الجنوبية. هذه المعطيات، والتي تبدو شديدة الوضوح والثبات، تفرض على صناع القرار في مصر ضرورة العمل على صوغ وتنفيذ سياسة خارجية قادرة على تأمين تدفق مياه نهر النيل والحصول على ما يكفي لسد احتياجات مصر المتنوعة منها، وفي كل الظروف والأحوال. ولأن نجاح مصر في تحقيق هذا الهدف، والذي يعد بالنسبة اليها قضية حياة أو موت، يتوقف على مدى قدرتها على انتهاج سياسة خارجية شديدة اليقظة تمتد الى ما وراء حدودها الجنوبية لتشمل دول حوض نهر النيل، فإن الأمر يتطلب منها: 1- رصد ومراقبة ما يجري من تطورات وأحداث قد تكون لها مردودات سلبية تؤثر على حقوق مصر في مياه النهر. 2-اتخاذ ما يلزم من إجراءات وقائية للحيلولة دون تغلغل نفوذ أي دولة معادية في شؤون تلك المنطقة، ثم العمل على مقاومة مثل هذا النفوذ والتصدي له وتحجيمه إن وجد. 3- إقامة أطر مؤسسية فعالة للتنسيق بين سياسات الدول الواقعة في هذه المنطقة حول كل ما من شأنه تحقيق السلم والأمن والاستقرار لها وفيها، وكذلك لدفع عجلة التعاون بينها، خصوصا في كل ما يتعلق بتوزيع وتنمية وترشيد واستغلال الموارد المائية، وفق مبدأ التكافل وتكافؤ المصالح والمنافع المتبادلة. أما في ما يتعلق بوظيفة تحقيق الأمن والاستقرار، فيمكن القول إن تفاعل حقائق التاريخ مع معطيات الجغرافيا رسخ الاقتناع بارتباط أمن مصر واستقلالها الوطني بما يجري وراء حدودها الشمالية الشرقية في المشرق العربي، وذلك تأسيسا على جملة حقائق أهمها: 1- أن أغلب الغزوات التي تعرضت لها مصر جاءتها إما من الشمال عبر البحر الأبيض المتوسط، أو من الشمال الشرقي عبر سيناء. 2- أن أغلب الغزاة الذين جاءوا قاصدين مصر سرعان ما اكتشفوا أنهم لا يستطيعون تأمين بقائهم فيها إلا بالسيطرة على منطقة المشرق العربي في الوقت نفسه (بخاصة سورية الكبرى: أي سورية الحالية ولبنان وفلسطين والأردن). 3- أن أغلب الغزاة الذين جاءوا قاصدين منطقة المشرق العربي سرعان ما اكتشفوا أنهم لا يستطيعون تأمين بقائهم فيها إلا باحتلال مصر. وفي سياق كهذا من الطبيعي أن ينظر إلى مصر وسورية الكبرى وكأنهما تشكلان كتلة استراتيجية واحدة. هذه الحقائق والمعطيات، التي تبدو بدورها شديدة الوضوح والثبات، تفرض على صناع القرار في مصر ضرورة العمل على صوغ وتنفيذ سياسة خارجية قادرة على الحيلولة دون تمكين أي قوة خارجية من السيطرة على منطقة سورية الكبرى. ويتوقف نجاح مصر في تحقيق هذا الهدف، والذي يمس على نحو مباشر أمنها الوطني واستقرارها، على قدرتها على انتهاج سياسة خارجية نشطة لبناء تحالفات إقليمية ودولية تعمل على: 1- رفض الانخراط في أحلاف عسكرية تشارك فيها قوى دولية أو إقليمية لديها طموحات معلنة أو مستترة للهيمنة على المشرق العربي. 2- اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة للحيلولة دون تمكين أي دولة غير عربية من مد نفوذها داخل المنطقة بطريقة غير مقبولة، ومقاومة المحاولات الرامية لعزل مصر وقطع تواصلها الجغرافي الطبيعي مع المشرق العربي. 3- إقامة أطر مؤسسية فاعلة لتحقيق أفضل مستوى ممكن من التنسيق، خصوصاً بين الدول التي تشكل مفاتيح رئيسية في عملية تحديد وضبط جدول أعمال المنطقة وقيادة تفاعلاتها السياسية، وبالذات في الأمور التي تتعلق بقضايا الأمن والسلام والاستقرار فيها. ويشهد تاريخ الدولة الحديثة التي أسسها محمد علي منذ بداية القرن التاسع عشر على أن نهضة مصر وتقدمها ارتبطا على الدوام بحجم ما تملكه من عناصر القوة وبما تستطيع ممارسته من نفوذ للتأثير، من ناحية، على ما يجري من أحداث وراء حدودها الجنوبية في منطقة دول حوض النيل، وعلى ما يجري من أحداث وراء حدودها الشمالية الشرقية في منطقة الهلال الخصيب. غير أنه يتعين في الوقت نفسه لفت الانتباه إلى حقيقة أخرى وهي أن المعطيات الجيوستراتيجية لا تمارس تأثيراتها بشكل ميكانيكي أو حتمي على عملية صنع السياسة الخارجية في الدول المختلفة، وإنما تمارسها من خلال «فلتر» النظام السياسي وطريقة إدراك القيادة السياسية لها. وفي هذا السياق يلاحظ أن التوجهات العامة لسياسة مصر الخارجية اتسمت بالثبات والاستقرار النسبي، وظلت تتفاعل في تناغم واتساق مع المعطيات الجيوستراتيجية حتى رحيل عبد الناصر عام 1970، إلى أن بدأت القطيعة مع هذه المعطيات تظهر في عهد الرئيس السادات. والواقع أننا حين ندقق النظر فسنكتشف: 1- أن التوجهات القومية التي اتسمت بها سياسة مصر الخارجية في عهد عبد الناصر لم تبدأ مع قيام الوحدة مع سورية عام 1958 وإنما مع قيادة مصر للعملية التي أفضت إلى تأسيس جامعة الدول العربية خلال الفترة من 1943 وحتى 1945. 2- وأن انخراط مصر في المعادلة العسكرية للصراع العربي - الإسرائيلي لم يبدأ مع صفقة الأسلحة التشيكية التي أبرمها عبد الناصر وقادت إلى حرب 56 وإنما مع قرار الملك فاروق دخول حرب 1948 وموافقة البرلمان المصري على هذا القرار بالإجماع. 3- وأن سياسة عدم الانحياز لم تبدأ مع مشاركة مصر في مؤتمر باندونغ عام 1955 وإنما مع وقوفها على الحياد أثناء الأزمة الكورية التي اندلعت عام 1950 حين امتنعت وقتها عن التصويت في مجلس الأمن لصالح قرار يفوض الولاياتالمتحدة بالتدخل عسكريا في الأزمة. ليس معنى ذلك أنني أزعم أن سياسة مصر في عهد عبد الناصر تطابقت مع سياسة مصر في مرحلة ما بين الحربين، ولكنني أزعم أنها شكلت امتدادا طبيعيا لها، وأن الفروق والاختلافات بين المرحلتين كانت في الدرجة وليس في النوع، غير أن القطيعة الكاملة تمت في عهد السادات، خصوصاً بعد حرب 1973، وما تزال مستمرة في جوهرها حتى اليوم وترتب عليها، في تقديري، إضعاف مصر إلى درجة تعريض أمنها الوطني للخطر، وإضعاف العالم العربي إلى درجة بات معها معظم الدول العربية، بما فيها مصر، مهدداً بالانقسام والتفتت إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس دينية أو طائفية أو عرقية أو قبلية أو غيرها. إن نظرة واحدة على ما يجري وراء حدود مصر الجنوبية تكفي لتأكيد الانطباع بأن مصر لم تعد طرفا له ثقل في تحديد أجندة منطقة حوض نهر النيل، وأن الولاياتالمتحدة وإسرائيل أصبحتا هما الأكثر فاعلية في صنع تلك الأجندة وتحديد نمط التفاعلات بين لاعبيها بالتعاون مع طرف إقليمي ثالث هو إثيوبيا. فالسودان معرض بالفعل للتفتت ولن يكون بمقدور مصر حينئذ أن تفعل شيئا رغم أن ذلك قد يفضي إلى حال من الفوضى وعدم الاستقرار ليس من المستبعد أن تنتهي بالافتئات على حقوق مصر في مياه نهر النيل، وبالتالي تعريض حياتها وقدرتها على البقاء لخطر ماحق. كما تكفي نظرة أخرى إلى ما وراء حدود مصر الشمالية الشرقية للتأكيد على أن ما جرى ويجري في العراق وفلسطين يمكن أن يحدث لدول أخرى كثيرة في المنطقة، منها إيران وسورية ولبنان. وهو، إن تحقق، فلن يكون بمقدور مصر أن تصمد في وجه العواصف اللاحقة. وفي تقديري أن مشهد المنطقة سيكون، حين ينقشع غبار هذه العواصف، كئيبا ومخيفا في الوقت نفسه. ولذا فما لم تبدأ مصر في مراجعة الأسس التي بنيت عليها سياستها الخارجية في مرحلة ما بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) وتقرر إدخال تعديلات جريئة عليها، فستستمر حال التردي الراهنة، وسيزداد العالم العربي ضعفا على ضعف، رغم أوهام القوة الأسطورية التي يعيشها بعض العرب الآن بسبب ازدياد عوائد النفط إلى درجة مذهلة. إن مطالبة مصر بالقيام بمراجعة جذرية للأسس التي تقوم عليها سياستها الخارجية الحالية لا تعني دعوتها للدخول في صدام أو في مواجهة مباشرة مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ولكنها دعوة لوقفة عقلانية رشيدة تستهدف إعادة ترتيب البيت الداخلي تمهيدا لإعادة ترتيب البيت العربي بما يسمح بانطلاقة جديدة على أسس أكثر اتساقا مع المعطيات الجيوستراتيجية لمصر والمنطقة. عن صحيفة الحياة 31/10/2007