أن تكون عبداً لله كما أمر فليس أشرف ولا أرفع من هذا منزلاً، فالتذلل بين يدي الله منتهى الغز، والخضوع أمام سلطانه قمة العظمة، والخوف من قهره وانتقامه منبع الأمن، والبكاء من خشيته مبعث الرجولة، وذلك كله لا يكون إلا لله، فهو وحده المستحق للعبادة بلا منازع أو شريك، قال تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
** ثم إن العبودية لله هي اختيار الله للناس، إذ أنها غاية وجودهم، ومن أجلها خلقهم، قال سبحانه { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}، والعبادة هنا لا تعنى أداء أركان الدين فقط، ولكن تتسع لتشمل كل عمل صغير أو كبير يُقصد به وجه الله تعالى، وبالتالي يصبح المرء عبداً لله في كل لحظة من عمره، وذاك هو المعنى الكبير والشامل للعبادة، بما يؤكد أن التمتع بنعم الله على نحو ما أراد الله يُعد عبادة، وعليه فكل عادة يمكن أن تتحول إلى عبادة، متى أخلص المرء نيته لله، ومن ثم فإن التزام الخلق باختيار الخالق لهم يحقق لهم نعيم الدنيا، كما يحقق لهم نعيم الآخرة، في آن واحد.
** والله سبحانه قلد رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام وسام العبودية في أعظم المواطن وأجلها، ففي مقام رحلة الإسراء - وهو من الأحداث المهمة والمؤثرة في التاريخ الإسلام - أسبغ الله على رسوله نعمة "العبودية له" ويا لها من نعمة، فقال جل وعلا { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير ُ} وفى مقام الوحي وهو أمر جلل أفاء الله على رسوله بنعمة "العبودية"، فقال سبحانه { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى }، وفى مقام الدعوة والإبلاغ عن الله وهب الله رسوله نعمة "العبودية"، فقال جل شأنه { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، وفى مقام تحدى أهل مكة في أبرز ملكاتهم ومواهبهم خلع الله على رسوله نعمة "العبودية"،فقال عز من قائل { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
** والأنبياء وهم صفوة الله من الخلق وصفهم الله بصفة العباد، حين تحدث عنهم القرآن في مقام الذكر، فإذا كان الناس يذكرون بأفضل صفاتهم، فإن أفضل ما يُذكر به الأنبياء هو كونهم عباد لله، قال تعالى{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ}.
** والناس من حيث عبادتهم لله ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:- الأول: صنف عبد الله خوفاً من ناره، وهذه عبادة العبيد. الثاني: صنف عبد الله طمعاً في جنته، وهذه عبادة التجار. الثالث: صنف عبد الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن عبده لذاته، وهذه عبادة الأحرار.
** وعباد الرحمن لهم صفات عينتها آيات في نهاية سورة الفرقان من الآية (63) إلى الآية (74)، وهى صفات التواضع، والحلم، وقيام الليل، والخوف من عذاب جهنم، والاعتدال في الإنفاق، وإفراد الله بالوحدانية، ومعرفة حرمة النفس فلا تُقتل إلا بحق، والعفة والطهارة، والبعد عن شهادة الزور، والإعراض عن مجالس اللغو، والسمع والإنصات والطاعة لله، وطلب التوفيق من الله في الزوجة والأولاد، وطلب المنزلة الراقية في مجال التقوى..هذه صفاتهم أخي القارئ، وأرجو أن تقرأ آيات هذه الصفات في سورة الفرقان.
** والعبادة إن كانت لله إفراد بالوحدانية، فهي لغيره شرك، فكل من قدم مراده على مراد الله، فقد أصابه سهم الشرك، وكل قصد بعمله غير وجه الله فقد أشرك، وكل من توكل على غير الله فقد أشرك، وكل من تصور أن الرزق بيد أحد غير الله فقد أشرك..الخ، فهناك شرك أكبر، وشرك أصغر، والشرك الأصغر لا يسلم من أحد إلا من رحم ربى، فهو أخفى من دبيب النملة السمراء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء..نسأل الله العافية.
** وأخيراً، من كان عبداً لله حقاً، عبًّد الله له الأشياء وسخرها لخدمته، ومن عصى الله مرًّد الله عليه كل الأشياء، قال أحد الصالحين " إذا عصيت الله عرفت ذلك في خلق زوجتي ودابتي" .