المسألة الكردية: تعقيداتها وأخطاؤها بلال الحسن من الآن وصاعدا، ستصبح المسألة الكردية بندا بارزا في الصورة السياسية المضطربة لمنطقة الشرق الأوسط، شاملة في تأثيراتها العرب وايران وتركيا. هذا البروز في المسألة الكردية لا يقدم للأكراد عناصر إيجابية، بل يقدم لهم عناصر سلبية كثيرة، ذلك أن سعي الأكراد إلى نيل حقوقهم، وهي حقوق عادلة، تلقى الدعم من الكثير من القوى الوطنية العربية، ارتبط بنهج كردي في العمل السياسي، يربط نفسه بالولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل، ويثير ضدهم بالتالي مخاوف وانتقادات ومواقف معادية، لا تقتصر على العراق فقط، بل تمتد إلى مناطق أخرى، عربية وغير عربية. في العراق، اعتبر الأكراد الاحتلال الأميركي فرصتهم لبناء حكم ذاتي، يتطور خلسة إلى دولة مستقلة تنفصل عن العراق. ومن يتابع أسلوب عمل «حكومة كردستان الإقليمية»، التي يرأسها مسعود بارزاني، يستطيع أن يرى بوضوح كيف يتم العمل على الأرض من أجل بناء دولة مستقلة منفصلة عن العراق، تحت ستار بناء الحكم الذاتي. فقد تم بناء المطار الذي ينظم رحلات خارجية مستقلة عن مطارات العراق الرسمية، ويجري منذ زمن تحويل قوات «البيشمركه» إلى قوات نظامية يصل تعدادها الآن إلى 100 ألف، وتقوم حكومة الإقليم بالاتفاق مع شركات أجنبية بالتنقيب عن النفط بمعزل عن الحكومة العراقية، وتسعى حكومة الإقليم إلى السيطرة على مدينة كركوك وحقولها النفطية، كعلامة أساسية من علامات السعي للانفصال والاستقلال. ومن أجل الوصول إلى هدف الانفصال (غير المعلن)، تتبنى الحكومة الكردية الإقليمية علاقات تحالف مع قوات الاحتلال الأميركي، تتباهى بها القيادة الأميركية وتعتبرها نموذجا للعلاقات التي تريدها في العراق، كما تتبنى إنشاء علاقات اقتصادية وعسكرية مع إسرائيل (بناء المطار وتدريب البيشمركة)، غير عابئة برد الفعل العربي على هذا التعاون وأخطاره. وفي إطار هذا العمل الكردي الداخلي في العراق، قامت حكومة الإقليم الكردي، ببناء علاقات تعاون مع أكراد تركيا، عبر التعاون مع «حزب العمال الكردستاني»، وتحول الإقليم الكردي في العراق إلى قاعدة خلفية لقواعد الحزب العسكرية، وقامت هذه القواعد في الأسبوع الماضي بعملية عسكرية ضد الجيش التركي، أثارت ضجة كبيرة، وأبرزت خلافا غير مسبوق بين الولاياتالمتحدة وتركيا. ولا تستطيع تركيا إلا أن تلاحظ أن هذا التحالف بين أكراد العراق وأكراد تركيا، إنما يتم برعاية وحماية جيش الاحتلال الأميركي، في الوقت الذي تعتبر فيه تركيا نفسها حليفا أساسيا للولايات المتحدة الأميركية. ولا تستطيع تركيا إلا أن تلاحظ أن الولاياتالمتحدة التي تقف بالمرصاد لكل قوة شعبية مسلحة، وتصفها بالإرهاب، تتعامل بود مع «حزب العمال الكردستاني» وتدعه يقوى تحت أنظارها، الأمر الذي يطرح سؤالا حول طبيعة هذه السياسة الأميركية المتناقضة وأهدافها الخفية، وكأن الولاياتالمتحدة الأميركية تسعى إلى تقسيم العراق من جهة، وهو أمر شاع الحديث عنه، وإلى إضعاف تركيا من جهة أخرى، من ضمن رؤيتها الشاملة للسيطرة على الشرق الأوسط الكبير. وهناك بعد آخر في المسألة لا يمكن تجاهله، وهو البعد المتعلق بايران. فقد توالت في الأيام العشرة الماضية، سلسلة من التصريحات الأميركية الخطيرة لا يمكن الاستخفاف بها، بل ويمكن اعتبارها مقدمة لعمل عسكري أميركي ضد ايران طال الحديث عنه. لقد جاء التصريح الأول من الرئيس الأميركي جورج بوش الذي هدد بحرب عالمية ثالثة ردا على زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأولى إلى إيران. وجاء التصريح الثاني من نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، الذي ألقى خطابا في مؤتمر ل«معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، جدد فيه الإعلان عن سياسة المحافظين الجدد، مستشهدا كالعادة بأقوال المستشرق برنارد لويس، وبأقوال الكتاب العرب الموالين من نوع فؤاد عجمي، ومنتهيا إلى النتيجة التي تعتبر ايران «عقبة متنامية في طريق السلام في الشرق الأوسط». وجاء التصريح الثالث من وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، التي قالت إن ايران «تمثل خطرا ربما هو الأكبر على الولاياتالمتحدة الأميركية». إن هذه التصريحات ليست عادية، وهي تنذر باقتراب لحظة الخطر الكبير. وقد جاءت العملية العسكرية الكردية ضد الجيش التركي في هذه اللحظة بالذات، بحيث يستحيل عدم الربط بينهما. ويشكل هذا الربط إشارة إلى أن المسألة ليست مسألة كمين عسكري، وليست مسألة غضب تركي، إنما هي تدخل في سياق أكبر من ذلك بكثير، سياق التوتر الذي يمهد لحالة أعلى من الحرب. وهنا أيضا لا نستطيع أن نتجاهل إشارة أخرى واردة هذه المرة من إسرائيل. ففي اللحظة التي انتهت فيها زيارة بوتين إلى إيران، توجه رئيس الوزراء ايهود اولمرت فجأة إلى موسكو للالتقاء مع بوتين، والبحث معه في الموضوع الايراني بالتحديد. ومن موسكو انتقل اولمرت إلى كل من باريس ولندن للبحث في المسألة نفسها، فلماذا يقوم اولمرت بكل هذه الزيارات المفاجئة، وغير المقررة، إذا لم يكن هناك أمر كبير جاهز للانفجار؟ على ضوء هذه الصورة نعود إلى أكراد العراق وموقفهم. إنهم يعملون من أجل الانفصال برعاية أميركية، ويحتضنون أكراد تركيا المسلحين برعاية أميركية، ويعتدون على تركيا والجيش التركي برعاية اميركية، ويضعون انفسهم في موضع معاد للعراق، وللعرب، ولايران ولتركيا. فهل هذا هو طريق البحث عن تحقيق المصالح الكردية الوطنية والعادلة؟ هل يمكن تحقيق أهداف شعب مناضل ومظلوم، من خلال التعاون مع الاستعمار، ومع الاحتلال الأميركي الذي يقاومه العراقيون كل يوم؟ هل يمكن التطلع لبناء كيان كردي، سيكون مجبرا بحكم الجغرافيا على التعاون مع العرب والايرانيين والأتراك، من خلال سياسة معادية للعرب والايرانيين والأتراك؟ هذه الأسئلة جديرة بأن يطرحها الأكراد على أنفسهم، خاصة بعد أن مروا بتجارب عديدة، جربت فيها أساليب التعاون مع الاستعمار وجرت عليهم الويلات؟ ألم يتعاون الأكراد مع الولاياتالمتحدة الأميركية، ومع هنري كيسنجر بالذات، ونظموا تمردا مسلحا ضد العراق في السبعينات، طمعا بالحكم الذاتي، أو بالاستقلال، ثم باعهم الأميركيون بأبخس الأثمان، في اللحظة التي تم فيها توقيع الاتفاق بين شاه ايران ونائب الرئيس العراقي صدام حسين في الجزائر؟ ألم يتعاون الأكراد مع المخابرات الجزائرية أثناء سنوات الحصار، وسعوا إلى تنفيذ انقلاب عسكري، ثم تفاوضت قيادات كردية مرموقة مع الرئيس صدام حسين، الذي حرك الجيش للقضاء على حركة الانقلاب، وهرب الأكراد بعدها إلى الجبال يعانون الجوع والبرد والتشرد، ومن دون أن تتقدم الولاياتالمتحدة لحمايتهم؟ وها هي القيادات الكردية تتعاون مع أميركا من جديد، وضد الشعوب الثلاثة التي تفرض الجغرافيا ضرورة التعاون معها، فهل ستكون السياسة الأميركية رحيمة بهم هذه المرة، أم أنها ستكرر معهم مآسي التخلي السابقة عنهم؟ إن الوطنيين العرب، وهم كثر، يتعاطفون مع الشعب الكردي ومع نضاله العادل لنيل حقوقه المشروعة، ولكن هذا التعاطف لا يمكن أن يستمر من طرف واحد. وعلى الأكراد أن يتعاطفوا أيضا مع الموقف الوطني العربي ضد الاحتلال الأميركي، حتى يمكن إنشاء تحالف يضمن مصالح الجميع. عن صحيفة الشرق الاوسط 28/10/2007