جميلٌ أن ينطلقَ الإنسانُ المؤمنُ في دروب هذه الحياة،يشق أغوارَهَا بنظرة تجعل من الدنيا-في حسه-ممراً لما وراءَها وجسراً يعبر منه إلى الآخرة،يحدوه في ذلك الجزاءُ الأوفى الذي وعدَ الله سبحانه وتعالى به عبادَه الواصلين المخبتين الأتقياءَ الأنقياءَ،الذين أدركوا حقيقة هذه الدنيا وبأنها أيامٌ ودقائقُ ولحظاتٌ معدوداتٌ،ينطلقون في جَنَبَاتِهَا حيناً من الدهر،يواجهون فيها ابتلاءات محتلفة بالخير والشر..بالصحة والمرض..بالغِنى والفقر..بالسراء والضراء..بالفرح والقرح.."الذي خلق الموتَ والحياةَ ليبلوكم أيكم أحسنُ عملا..."،ثم بعد لأي يدركون أنه لابد وأن تأتي ساعةُ الاحتضار ولابد بعدها من تقديم كشف الحساب لحصاد العُمُر والعمل..!!.
لذا،فالمؤمن الحق يعلم عِلمَ اليقين،أن دنياه الفانيةمَعبراًلأخراه الباقية،لأنه-وهو في عز الانغماس بشواغله الدنيوية، يحقق فيها أرباحاً ومكتسبات أو يتجرع فيها خسائرَ وكُرُبات- يجعلُ نصبَ عينيه قولُه تعالى:"وللآخرةُ خيرٌ لكَ من الأولى"،وقوله تعالى:"واضرب لهم مثلَ الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياحُ وكان الله على كل شيء مقتدِراً"وقوله تعالى:"وللدارُ اللآخرةُ هي الحيوانُ"وقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم لاعيشَ إلا عيشُ الآخرة،فاغفر للأنصار والمهاجِرة"،ويجعل نصب عينيه تلك الأبيات الذهبية المليئة بالعبرة والعِظة المعزُوة للإمام محمد بن إدريس الشافعي(وهي التي نقلها عنه الإمام النووي،وأثبتها في مقدمة كتابه المشهور "رياض الصالحين")والتي يقول فيها: إن لله عِبَاداً فُطناً**طلقواالدنياوخافواالفِتنا. نظروا فيها فلماعلمواأنهاليست لحي وطنا.
جعلوهالُجةً واتخذواصالِحَ الأعمال فيها سُفُنا..!!. والمؤمن الأخروي،لاتَغيب عنه أبداً أن الدنيا اللعوبَ قد تخدع ابنَ آدم بزهرتها المغرية،فتُسكِرُهُ بسراب الخلود(!!!!)حتى إذا استمكن الشيطان منه،وركبه هواه الأرعن،وقهرته نوازلُ الدهروأدارتِ الدنيا له ظهرَها،استيقظ من غفوته على الأكذوبة التي انتشى بها لسنين،ليجدَ حالَه شبيهةً بحال الحسن بن هانىء(أبي نواس)،ذلك الشاعر التليد الذي عاش حياتَه خليعاً مستهتِراً-كما هي حال كثير من شبابنا اليوم-ملأَ الدنيا بخمرياته وَنَزَقِهِ،فلما استهلكَته الأيامُ،وزحف به العمرُ إلى المرض والشيخوخة،استيقظَ الضميرُالغافلُ فجأةً على الحقيقة الكبرى،لتجودَ القريحةُ الشعريةُ ببيتين من الشعر،أراهما-على الأقل من زاويتي المتواضعة-أجودَ ما قال الرجلُ في حياته الشعرية على الإطلاق: وهل نحن إلا هالكٌ وابنُ هالك. وذو نسب في الهالكين عريقِ. إذا عرف الدنيالبيبٌ تكشفَت. له عن عدو في ثياب صديقِ..!!!.
نعم..هذه هي معادلةُ الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة في حِسنا الإيماني نحن المسلمين،وهي معادلةٌ تبلغُ عندنا حد التواتر واليقين،وهي من المسلمات الراسخة التي توارثناها عن كتاب ربنا-جل شأنه-وعن أحاديث نبينا-عليه الصلاة والسلام-القطعية الدلالة والثبوت،لايَزيغُ عنها إلا هالكٌ أو كافر..!!!. بيد أن للفقه والفكر السليم سؤالٌ هنا..هل معنى التطلعُ الجاد المتفاني للآخرة يقتضي إهمالَ الحياة الدنيا وتطليق مجالاتها الحيوية..؟؟!!!.
أو بمعنىً آخر؛هل من دلائل الإيمان العميق والفهم السديد أن يقف المسلمُ على مُفترق طريق ليختارَ لنفسه بين أمرين-أحلاهما مُر.!!-ياإما الدنيا بحياتها وياإما الآخرة بحياتها،ويستحيل أن تكون إحداهما مَضنةً للأخرى..؟؟!!!.
الحقيقةُ أن مبعثَ هذا التساؤلِ المغلوط،يرجع إلى ما تحسسناه من فهم سقيم استقر في أذهانِ كثير من المسلمين هذه الأيام حول مفهوم المعادلة الدنيوية الأخروية والعِلاقة بينهما،فلاحظتُ أن كثيراً من الناس يعتقد أن للدنيا ناساً لاعلاقةَ لهم أبدا بالآخرة،وهم الذين أمسكوا بنواصي التعمير المختلفةفيها،وانغمسوا في مجالاتها الحيوية يتعاملون معها ويتفاعلون بإيقاعاتها المتنوعة(في عالم المال والأعمال والتجارة والزراعة والصناعة والاقتصاد والخدمات...الخ..الخ..)،هؤلاء في حسهم أهل الدنيا..!!.
أما أهل الآخرة،فهم الذين طلقوا الدنيا بمجالاتها الحيوية المختلفة،وأقسموا يميناً بائنةً بينونةً كبرى عليها،فأداروا ظهورهم للمال والأعمال والتجارة والصناعة والزراعة،وراحوا يشنون على المال والكسب حملةَ تزهيد لانظيرَ لها،وبأن المالَ فتنة،وهو بعبعٌ من الفساد يقضي على صاحبه لامحالة،وبأن الجنةَ قرينةُ الفاقة والفقر والمسكنة،وبأن الزهد الحقيقي يقتضي العُزوف عن كل مظاهر المتعة والرفاهية..هؤلاء في حسهم هم أهل الآخرة..!!.
والحق أن في هذه النظرة القاصرة تجن خطير على مفاهيم ديننا الصحيحة،وهي نظرة مغلوطةٌ رمتنا به العصور الأخيرة التي مرت على أمتنا الكسيرة،والتي اتسمت بالتخلف والانحطاط الفكري المتهالك.بل إن هذا الفِصام النكد في نظرة المسلم للدنيا والآخرة هو بعضٌ من كيد الغزو الفكري الذي نجح أعداؤنا في تلويث مفاهيم الإسلام الصحيحة بشأنه... ونحب على عجل أن نميط اللثام على هذه اللوثة الفكرية،علنا نُزيح بعضَ الغبش الذي ران على الأفكار والمفاهيم... وليس لمثلي أن يأتي بجديد من عنده،وإنما سندُنا هو مواريثنا الأولى الصافية النقية التي تعهدناها من سلفنا الصالح كابراً عن كابر... فمن قال ياتُرى بأن الدنيا-في حس المسلم الحق-مُعسكرٌ مُضاد للآخرة،ومن أنهما على نقيض تنافر بحيث لا لقاء ولا التقاء..؟؟!!!.
ومَن مِن علمائنا الأسلاف أو الأخلاف قال بهذا اللغو الخطير،وبهذا المعنى الذي يجعل الدنيا بمعزل نهائي عن الآخرة..؟؟!!!. أنا أعلم أن هذه النغمة الخطيرة،دخلت خِلسةً في الفكر الإسلامي الصحيح في بدايات الدولة العباسية،ثم طفح الكيلُ،حين بدأت الطرق الصوفية والفكر الإرجائي(خاصةً في عصور انحطاط المسلمين أواخر عمر الدولة العثمانية المتداعية)فنبت فكرٌ سقيمٌ يربط الآخرة بطلاق الدنيا نهائياًبالصورة المغلوطة التي تزهد المسلم في تعمير الحياة..!!.
والحق أن الإسلامَ بريءٌ من هذا الفهم المعلول... فلو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدناه يحث المسلمَ على أن يحيا في سبيل الله كما يجب أن يموت في سبيل الله..!!.
والتطلعُ إلى الآخرة-كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله- شيءٌ آخرُ غير التجهيل بالدنيا..!!.فالدنيا جسرللآخرة،بل هي سببٌ في حيازة جنتها بدليل قوله تعالى:"وابتغ فيما آتاك الله الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدنيا"وبقوله صلى الله عليه وسلم:"الدنيا مزرعةُ الآخرة".. ولو عدنا إلى سيَر الصحابة الكرام والسلف الصالح من التابعين وتابعيهم،لوجدنا أن هؤلاء كانوا جميعا يتطلعون إلى الآخرة بعمارة الدنيا،فكان المالُ-مثلاً-في أيديهم،يستثمرونه،ويسعون إلى تحصيله،ليكون سببا في فعل الخيرات ادخاراً لأخراهم.. خذ مثلاً العشرة المبشرين بالجنة،لم يكن منهم فقيرٌ واحدٌ(!!)ولقد كان أبوبكر وعثمان وعبد الرحمان بن عوف-وهم مِن كبار الصحابة رضي الله عنهم - أثرى أثرياء المدينة(كان عثمان رضي الله عنه ملياردير المسلمين بلا منازع..!!)،فهل شن هؤلاء حرباً على المال بعد إسلامهم بالطريقة التي يُزهد بها البعض اليوم حيازته..؟؟وهل أثر المال في أخلاق هؤلاء أو أنقص إيمانهم أو سلخهم عن حب الله وطلب الآخرة..؟؟!!!.
إن علماءَ السلوك والتصوف الصافي الصحيح(كسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض و سفيان بن عيينة...)قالوا؛إذا كان الزهد هو قطع العلائق بما في يدالخلائق،فإن الزهد الحقيقي لا يعني الحرمان كما لايتناقض مع الامتلاك.
وبأن الزهد الحقيقي،هو أن تملكَ الدنيا وتكون أزهدَ الناس،وضربوا لذلك أمثلةً عديدةً،أشهرُها مثالُ الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه،الذي ملك الدنيا وكان أزهدَ الخلق،وفي هذا يكمن الزهد السامي الحقيقي،أما أن يتحدث فاشلٌ أو مسكين أو فقيرٌ تقاعس عجزاً عن حيازة المال والتجارة ومجالات الحياة الحيوية،فهذا ما سماه علماؤنا ب "زهد الحرمان" (الذي يسميه إخواننا المصريون بقصر الذيل)،ولذلك في نقاش بين زاهد من البصرة وزاهد من بلخ،قال البصري للبلخي:مالزهد عندكم؟فرد:الزهد عندنا أنا إذا وجدنا شكرنا وإذا فقدنا صبرنا..قال له البصري:هذا زهد كلاب بلخ..!!!
فقال البلخي:إذن ماالزهد عندكم؟؟قال:الزهد عندنا أنا إذغ وجدنا أنفقنا وإذا فقدنا شكرنا لأننا نرى العطاءَ في المنع..!!!. وهذه هي الدقة الإسلامية.. فإن الله تعالى يعلمنا بقوله:"وأما بنعمة ربك فحدث" و النبي -عليه الصلاة والسلام- يعلمنا:"نعم المال الصالح للرجل الصالح" ويعلمنا:"إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".... إذن فالمشكلة ليست في المال والفقر،إنما المشكلة الحقيقية،هي في التساؤل الآتي؛هل إذا سعينا إلى الدنيا ومالها وزينتها،أن ننجح في امتحان التعمير حتى نقطع جسرها للآخرة أم أننا لسنا كسلفنا الأوائل الذين كانت الدنيا ملء أيديهم وكان الواحد منهم يقول:اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا ولا ومبلغ علمنا،اجعلها في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا..؟؟؟هذا هو السؤال الأساس.