قرأت خبرا طريفا نشرته جريدة "الصباح" التونسية في عددها الصادر يوم 18 ديسمبر 2010، يتحدّث عن شروط وضوابط وإجراءات ممارسة نشاط تجارة التفصيل والتجوال...
فقد تعيّن على ممارس هذا النّشاط الحصولُ على بطاقة "تاجر متجوّل" بشرط أن يكون هذا الممارس تونسيَّ الجنسية قد بلغ من العمر سنّ التكليف الإداري أي ثمانيَ عشرة سنة كاملة...
ومن يخالف تعليمات القرار أو توصياته سوف يعاقب بخطيّة مالية تتراوح بين 500 و3000 دينارا (350 دولارا – 2100 دولارا تقريبا)...
الملفت أنّ هذا الأمر جاء بعد كثرة الاعتداءات المقترفة من طرف أعوان التراتيب البلديّة ومراقبي الأسواق وحرّاس النّظام النوفمبري على التونسيين أمثال القاضي البائع المتجوّل صالح بن عبدالله حفظه الله والجامعي البائع المتجوّل محمّد البوعزيزي عافاه الله ورحمه .
والكثير ممّن لم تمكّنهم هاماتهم من إبلاغ أصواتهم وقد ديسوا بالأقدام في "تونس فرحة الحياة"... ممّا يدلّ أنّ ملّة النّظام منتبهة وآخذة بالأسباب التي بها تُحكِمُ الخناق على النّاس!...
فهذا الأمر يَدخل حيّز التنفيذ يوم 14 يونيو / جوان 2011، وصياغته قد لبست كساء واقيا: فقد استثنى الأمرُ – كي لا يبدو مضيِّقا على الباعة – الحرفيَّ والمنتجَ الفلاحيَّ اللذين يرغبان في بيع منتوجهما مباشرة إلى المستهلك.
دون وقوف عند ما قد يعترض هذا الحرفي أو هذ المنتج من معوّقات ميدانية لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى ثمّ الحرفي والمنتج نفسه!...
فلعلّ كلّ حرفيّ وجد – في إطار البقاء للأصلح والعمل التنافسي - حرفيّا يصدّه ويمنعه، فلا يعرض أو يبيع إلاّ حرفيٌّ أو منتجٌ قد أُختير مسبّقا... ويبدو أنّ الأقاربَ والأصهارَ والملأَ المقرّبين قد تدرّبوا كلّهم على حذق الحرفة والبيع والشراء والفلاحة!...
وهذا الأمر وإن بدا موجزا غير عابئ بغير جنسية التاجر وسنّه؛ قد أشار إلى أنّه يتعيّن على مقدّم الطلب للحصول على بطاقة "تاجر متجوّل" تقديم الوثائق المطلوبة إلى الإدارة الجهويّة للتّجارة المختصّة ترابيا!...
وهنا تخنس الكارثة:
فلعلّ من ضمن الوثائق المطلوبة شهادة خلوّ مقدّم الطلب من التتبّعات العدلية فأنّى لأمثال صالح بن عبدالله إثبات ذلك، أو شهادة خلوّه من العاهات المستديمة كالانتماء إلى "مجموعات المفسدين المتعدّدة" فأنّى للصالحين من التونسيين إثبات ذلك.
أو بيّنة إثبات بعده وابتعاده عن الغلوّ والتطرّف فأنّى لشباب تونس ورجالها من أبناء الصحوة تأكيد ذلك، أو ضرورة حيازته بطاقة انتماء إلى جمعيات وأحزاب بعينها أو إمضائه على قوائم بعينها كتلك التي تنادي بالتأبيد أو التوريث وغيرها فأنّى للأحرار والرّجال بيان ذلك!...
والأمر قد ضبط لكلّ حامل بطاقة مكان الممارسة؛ فلا حرّية في التنقّل ولا محاولة للإقلاع والترقّي والتحسّن ولا مجال لربط الصِّلاتِ والتجوال في الرّبوع والبلدات...
والأمر قد حدّد للبطاقة مدّة صلاحيّة قد تتجدّد بعد نفادها إن استقام حاملُها وتابَ، وقد تخصم من حاملها إن ظنّ أنّ الرزق من السماء بغير حساب!...
ملّة نظام تتحوّط لنفسها... تغلّق على كرسيّها الأبواب متمسّكة به صارخة هيت لك! دون خشية من قدوم عزيز أو شاهد من أهلها يقيم عليها الحجّة!...
فماذا نحن فاعلون!؟...
تساؤل يقلقني كثيرا:
إذا كانت هذه الملّة تكره سواد التونسيين وتبغض الخير لهم وتمنعهم مما يخدم مصالحهم، فلماذا لا يبادلهم التونسيون نفس الشعور فيبغضونهم ويعملون على الحدّ من شرورهم، أو يجتهدون بالمرّة في تقويض عروشهم وتحطيم تحصيناتهم وإزالتهم من مواقعهم!...
لماذا دأب التونسي على الدفع من ذاته دون تفكير في إلزام الآخر بالدّفع؟!
لماذا ينتحر هذا التونسي أو ذاك ولا يفكّر في فداء نفسه والتضحية بها إيجابيّا كذاك الفتى المؤمن: يناضل حتّى يموت بدل أن يموت ميتة تُنزله منزلة قاتل نفس بغير حقّ؟!...
قد فهمنا رسالته:
فقد ضاقت به نفسه حتّى ما عاد يرى نفسه فعاجل بنفسه! ولكنّ الملّة الحاكمة لم تفهم الرّسالة أو أنّها فهمتها وتجاهلتها فلم تستجب إلّا بزيادة التضييق كما في الأمر المتحدّث عنه في هذه السانحة!...
ثمّ ما بال التونسيين لا يتحرّكون ولا يحتجّون - كما نراهم هذه الأيام في سيدي بوزيد وفي غيرها من البلدات المجاورة - إلّا إذا بلغ أحدهم أو بعضهم مرحلة اليأس فبادر الله بنفسه؟!...
ألا يخشون عليه النّار، فقد جاء في الحديث الصحيح: "... قال الله عزّ وجلّ بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة"!!.. ما بال الكثير من التونسيين تأسرهم الأنانية وتقيّدهم الأفكار القاتلة الخادمة للظلم والظالم، فلا يتحرّكون إلّا إذا كانت المصيبة في حيّهم أو في دارهم!!..
أين التناصر والغيرة والرّجولة والشهامة التي حرّضت ذات يوم رواد مقهى لا علاقة لهم بالمساجد إلى فكّ الحصار عن الشيخ المرحوم الزرن وتأمينه والخروج به عنوة أمام جحافل البوليس المستهتر بالقيم!!..
ملّة النّظام أجّلت التنفيذ – تنفيذ الأمر – إلى شهر يونيو... لتجعل إمكانيّة التراجع واردة إذا ما قوبل هذا الأمر بالرّفض والمطالبة بالحلول الجذريّة الخادمة للفرد وللوطن...
فهل أنتم أيّها التونسيون فاعلون شيئا ذا قيمة خلال هذه الفترة ترشّد النّظام وتجبره على مراجعة حساباته... أم أنّكم ستجعلون هذه الفترة فيصلا بين الظلم والعدالة بالقضاء النّهائي على مصادر الظلم...
أمّ أنّكم ستنمّون - بالسلبية المعتادة - لدى النّظام وملإه شرهه ورغبته في الارتواء من دمائكم الزكيّة!...
المقاومة تستدعي عموما التضحية، والتضحية قد تبلغ حدّ إزهاق النّفوس...
والسؤال الهام:
أتموتون شرفاء أعزّاء أم تموتون منتحرين يعلّق عليكم في أعقابكم وعند تشييع جنائزكم بسيس وأضرابُه عبر الفضائيات:
أنّكم أناس فوضاويون لا تحبّون الحياة الكريمة التي وفّرها في تونس صاحب التغيير!...