كانت الساعات الأخيرة تقترب اول امس السبت من الموعد الذي قرر فيه حزب التحرير تنظيم المؤتمر في رام الله، وكنت أتابع تفاعل الناس مع هذا الحدث: كان الحزب يهدف الى ايصال رسالة قوية للأمة بأن الخلافة التي هدمت بداية القرن العشرين ليست تاريخاً عثمانياً وحسب وإنما هي الضالة العظمى التي يبحث عنها كل مسلم اليوم، وكان يجب أن تصل هذه الرسالة للناس. فالعمل السياسي هو وقفة تتخذ يكون تأثيرها أعظم من المقالات والكتب والحوارات لأنها عمل سياسي.
منذ أيام كانت تتواتر الأخبار عن عزم بلدية منظمة التحرير التي يسمونها السلطة الفلسطينية بالتعامل بقسوة شديدة مع هذه الفعاليات لحزب التحرير. وكنت شاهداً في إحدى وسائل الاعلام كيف هددت أجهزة السلطة الأمنية وسائل الاعلام وأجبرتها على عدم بث الشريط الاعلاني لهذه الفعاليات واضطرت وسائل الاعلام المحلية للاستجابة تحت الضغط وأوقفت بث هذا الشريط، وتحت وطأة التهديد والوعيد أجبرت مديري وسائل الاعلام على التوقيع على تعهد لعدم بث "دعاية حزب التحرير بوصفه حزباً معادياً" وقد رفض بعض الاعلاميين الشرفاء التوقيع على هذا التعهد مثل السيد معمر عرابي مدير تلفزيون "وطن"، رافضاً ومستهجناً أوصاف رجال الأمن بأن حزب التحرير حزب معادٍ.
وكانت بعض التسريبات تتحدث عن نية أجهزة الأمن التابعة لبلدية السلطة إغلاق مداخل المدينة والتمرير على الهوية منذ الساعة الخامسة صباحاً باعتبار المسألة أقصى حالة طوارئ تجتاح المناطق الفلسطينية التي سلمها رابين لهذه السلطة من أجل حفظ الأمن فيها والنيابة عنه في مكافحة الحركات الاسلامية.
وفعلاً نصبت الأجهزة الأمنية الحواجز وأخذت ترجع كل من لا يحمل الهوية، علمت بالأمر وأصررت على الخروج والوصول الى رام الله، وبعد أخذ الهويات من ركاب الباص للفحص تم إنزالي من الباص وبدأت الأسئلة للتدقيق في اسم العائلة لمدة خمس دقائق وبعدها أبلغت بأني يجب أن انتظر قليلاً وأنهم يريدوني "من أجل شرب فنجان قهوة عندهم"، وبالصدفة اتصل بي أحد الزملاء وأنا في لحظة الانتظار فطلب مني رجال الوقائي بأن لا أحبر شيئاً، وقالوا أنت تخبرهم بوجود الحاجز من أجل تفاديه.
وعلى عجل تم نقلي بسيارة الى أحد مراكز الاعتقال في مدينة رام الله قبل الظهر، وكان بضعة شباب موقوفين هناك، وبعد التصوير التحقيق والذي لم يظهروا فيه قسوة، بل أظهروا اسفاً على قيامهم بمنع نشاط الحزب لأن الظروف السياسية لا تسمح بذلك ودائماً يسندون الكلام لكبار مسؤوليهم حتى لا يتحملوا الاحراج، وطلب مني الانتظار في الساحة بعد ذلك.
واصلت سيارات الأجهزة الأمنية نقل شباب حزب التحرير الى ذلك المركز (كما غيره كثير) حتى وصل العدد قرابة الثلاثمائة. كان الشباب يتحدثون عن موقف مهتز لعناصر الأمن، وقد تم التعدي والضرب على بعض الشباب في غرف التحقيق التي لم يسلم منها أحد من شباب الحزب الموقوفين، ولكن كان واضح اللين مع الكثير من الشباب والتعامل معهم باحترام، وكان بعض الشباب يطلبون من عناصر الأمن تأييد الحزب وتأييد دعوته لاقامة الخلافة ولم أسمع من عناصر الأمن من يتجرأ ويرفض هذه الدعوة، بل إن الشباب كانوا في بعض الأحيان يطرحون الفكرة بصورة استفزازية.
رأت قيادة الأمن حسب ما ظننت أن شباب حزب التحرير جميعهم قد أصبحوا في مراكز الاعتقال، وهذا فهمته من وجود قرابة 300 شاب في المركز الذي كنت فيه، وعلى اعتبار أن الأمن يوقف الشباب في 15 مركزأ وبنفس الأعداد إن لم يكن أكثر فإن المسيرة أو المؤتمر لن يجري عقده بالتأكيد.
في هذه اللحظات وعند وصول القيادات الأمنية لهذه الحقيقة عرض علينا رجال الأمن مع آذان العصر أن يتم إخلاء سبيلنا بشرط أن لا نعود لمدينة رام الله، ومن أجل ذلك ستقوم السيارات العسكرية بإخراجنا خلف الحواجز المقامة حول رام الله لضمان ذلك.
وكان يفترض أن يتم تسليم الهويات ويفرج عن الشباب في تلك اللحظات، وبانتظار ذلك كانت عقارب الساعة تقترب من الخامسة شيئاً فشيئاً، عندها حصل ارتباك شديد في حركة السيارات العسكرية في المعتقل خروجاً ودخولاً وبدأت تعود بعد كل ربع ساعة تقريباً محملة بالمزيد من الشباب، وكان بعض الشباب يخبرنا أن المسيرة قد انطلقت في رام الله وتجاوزت الخطة الأمنية لأقزام الأمن الذيم يملئون ملعب مدرسة رام الله الثانوية منذ الخامسة صباحاً ويعتقلون كل من يقترب من الملعب طوال النهار وطالت اعتقالاتهم عمالاً يعملون في المنطقة.
وصل أحد شباب الحزب برفقة والدماء ظاهرة على ظهره ورأسه وبعد معاينتهم لحالته تم نقله للمستشفى بعد ربع ساعة من وصوله وأخبرنا بوجود جريح جراحه شديدة من الشباب.
وما فهمته وما علمته من الناس بعد إطلاق سراحي الساعة السادسة عصراً، بأن المؤتمر قد تم تحويله الى مسيرة وسط منطقة المنارة في رام الله، خرجت والرايات تعلوها معلنة للعامل بأننا عصيين على المنع وأن إرادتنا أعظم بكثر من أي إرادة أخرى عند وزير الداخلية وقيادات الأمن والسياسة في البلدية المذكورة، وأن هذه الارادة هي إرادة الواعي العاقل لما يفعل والذي يعلم بأن المر إذا أمر يجب إنفاذه مهما كلف ذلك، وقد كنت ليلة السبت مطمئناً بما وجدته في سورة آل عمران "والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" وقفت وتفكرت فيها وأيقنت بأن المؤمن يكفيه جبروت الله يستند اليه، ولأني أعشق الحياة وجدت معانٍ متجددة في قوله تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون" ربما لم أنتبه في حياتي قبل ذلك الى تأكيد الله سبحانه وتعالى على الحياة والرزق لمن يقتل في سبيل الله، فزاد استخفافي بما يجمعون، وفي نهاية المقالة أحب أن أن أؤكد على الحقائق التالية التي تكشفت بعنف شديد بالأمس:
الأولى: إن انطلاق المسيرة بالأمس في رام الله رغم اعتقال ما يقارب الثلاثة آلاف رجل من رجال الخلافة، وإنطلاقها بزخم كبير قد ملأ ساحات المنارة قد أكد أمرين:
1. ليست قوة حزب التحرير بالعدد فاعتقال الآلاف من شبابه لا يوقف نشاطاته لأنه يتقدم فعلاً في اتجاه ثابت كحزب أمة، وأن الأمة تنتبه اليه يوماً بعد يوم كحزب جامع للأمة يخرجها من دياجير الخطط الاستعمارية التي انخرطت فيها معظم الأحزاب الوطنية بما في ذلك ذات الصبغة الاسلامية، مع أن مد الحزب كبير وجارف، وفي هذا أيضاً مدعاة للشباب لرفد التيار بالمزيد من الدماء للمزيد من التحدي القادم.
2. والثاني أن العمل السياسي هو صراع إرادات فمن ملك الارادة الأصلب كان له النصر في النهاية، وبما أن عقيدة الاسلام هي مصدر إرادة شباب الحزب وأن ال 1500 شيكل هي مصدر إرادة رجال الأمن فإن النهاية معروفة، ولولا رفد دول الكفر للأجهزة الأمنية الفلسطينية بالدعم والعتاد والسلاح بموافقة اليهود طبعاً لما وجدت رجلاً يتطوع ليدافع عن هذه البلدية المشوهة.
والحقيقة الثانية: أن مدينة رام الله كانت تعيش بالأمس أجواء الصراع من أجل الخلافة، فيسال بسطاء الناس: أصيحيح أن الخلافة يمكن أن تعود؟ ويسأل آخرون: لماذ تقف السلطة الفلسطينية ضد من يدعو لاقامة الخلافة الاسلامية؟ وتسمع العبارات التي لا مجال لذكرها في معاني أن هذه السلطة عدوة لله ورسوله والمؤمنين، وأنهم خدم لليهود، وأنهم يقتلون شعبهم، وأنهم وحوش، وغير ذلك. وأقدر بأن الرجة والهزة التي حدثت بالأمس في رام الله كانت أشد بكثير من لو سمحت السلطة بإقامة المؤتمر بسلام، فكل الناس على الحواجز يتسائلون: ما بال رجال الأمن يصطفون لأمر لا بد أنه عظيم ، وفعلاً أمر الخلافة عظيم، ولكن عداء الخلافة عظيم أيضاً.
والحقيقة الثالثة: خرجت من المستشفى لعيادة أصدقاء جرحى في مستشفى الشيخ زايد، وقد كان الدم لا يزال يسيل من رؤوسهم وأطرافهم وكانوا يتلقون العلاج. لم أرلا أي من وسائل الاعلام تصور هؤلاء الأشراف الذين سال دمهم في سبيل الله، ذهبوا ملبين النداء، شعارهم بأن هذا يوم من أيام الله لإظهار دينه، وأنه يوم تحد وصراع بين القوة التي تمثل لا إله إلا الله وبين قوى الكفر التي ترفض الخلافة وتعمل على قمع المنادين وقمع رافعي رايات العقاب التي رفعها محمد عليه السلام فدانت له ولأمته بها العرب والعجم. والذي يجب أن نعرفه أن وسائل الاعلام تخون الأمانة التي تمثلها، ونحن إذ نعلم القيود الهائلة التي تفرضها الجهات التي تملك وسائل الاعلام والدول التي خلفها، إلا أن كلمة إزدراء واستخفاف يجب أن تقال في وسائل الاعلام: إنكم تصورون وتعرضون كل صغيرة تصدر عن أعداء الأمة وعن علمانيي الأمة الذين لمويعودوا يمثلون أكثر من فئة السلطات الحاكمة المنتفعة بالوظائف والمناصب، ولا تظهرون التيار الجارف في الأمة، وبما أن النتيجة أن الغلبة المحتمة هي لهذا التيار الذي تتصلب إرادته يوماً بعد يوم فإن مشاهدكم أيها المراسلون وتقاريركم وأسمائكم التي يحفظها الصغير والكبير من أبناء الأمة، ستغيب عن الساحة، وسيظهر رجال إعلام جدد يكون همهم الأول جعل الاعلام وسيلة من وسائل قوة الأمة التي تعتقد الاسلام وتكون عندها تحتكم اليه وليس من أجل التقرب من الحكام حتى لو كانوا خلفاء طاهرون، وليست قطعاً وسيلة للترزق العالي الذي تغدقه عليكم فضائيات أمراء النفط.