علاء فاروق منذ أيام تمت الانتخابات البرلمانية في جمهورية قرغيزيا وسط جو وُصف من قبل المراقبين بالهادئ والمستقر.
وقد تمت العملية الانتخابية دون وقوع أعمال عنف كما توقع بعض المتابعين للشأن القرغيزي.
والحقيقة- وبعيدًا عن وصف الجو الانتخابي- فإن مجرد إتمام العملية الانتخابية على هذا النحو يعد نجاحًا كبيرًا لدولة غير مستقرة تهدّم اقتصادها منذ شهور قريبة إثر الأزمة الطاحنة بين القرغيز والأوزبك.
كما يعد هذا انتصارًا لعملية الاستفتاء الشعبي الذي أجرته الحكومة في يونيو الماضي، والذي يُعد سابقةً في منطقة آسيا الوسطى كلها، حيث مازال على رأس البلدان المجاورة مثل أوزبكستان وكازاخستان وطاجكستان، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، الزعماءُ أنفسهم الذي يفوزون بفارق كبير في الانتخابات الرئاسية.
مفاجآت
وبعد انتهاء عمليات الفرز نتج عن هذه التجربة الانتخابية الرائدة في المنطقة عدة مفاجآت ما كانت في حسبان المحللين والمتابعين، ومن أبرز هذه المفاجآت أن الانتخابات تمت بنجاح، ودون أي عمليات تزوير أو حتى مخالفات تذكر.
وهذا ما شهدت به المنظمات المراقبة لسير العملية الانتخابية، ومن المفاجآت أيضًا النتيجة التي انتهت إليها العملية، وتفوق حزب أتا-جورت، الموالي للرئيس المخلوع، كرمان بك باكييف، على باقي الأحزاب.
وبحسب النتائج النهائية التي أعلنتها اللجنة الانتخابية المركزية سيحصل آتا-جورت على 28 مقعدًا في البرلمان بنسبة 8.88% من الناخبين، أما الحزب الاجتماعي الديمقراطي الموالي للحكومة فحصل على 26 مقعدًا.
كما حصل حزب آر- ناميس المعارض الموالي للروس برئاسة رئيس الوزراء الأسبق، فيليكس كولوف، على 25 مقعدًا، ويأتي في مراتب أدنى حزبا ريسبوبليكا الوافد حديثًا على الساحة السياسية ب23 مقعدًا، أما آتا- ميكين المفضل لدى الحكومة فلم يحرز أكثر من 18 مقعدًا.
خوف وصدمة
والعقبة هنا هو تصدر هذا الحزب للنتائج الانتخابية بما يعني أنه سيكون له قوة كبيرة داخل البرلمان، بالإضافة إلى التواجد المكثف داخل الحكومة الائتلافية المزمع تشكيلها قريبًا.
وهذا من شأنه- حسب رأينا - أن يعمل على زيادة بعض الاحتقان بين الأقليات هناك؛ حيث أن هذا الحزب لا يعترف بهذه الأقليات، و يسعى دائمًا إلى تهميشها كما كان يفعل الرئيس المخلوع.
وحزب "أتا جورت" حزب قومي ذو قوة سياسية كبيرة في الجزء الجنوبي الريفي من البلاد، الذي شهد أعمال عنف إثنية منذ عدة شهور، والسؤال هنا: هل سيستغل هذا الحزب فوزه الكبير هذا في فرض سيطرته على الأمور في الجنوب؟
ومن ثم إملائه لبعض الشروط والسعي لتنفيذها، ومن أبرزها المطالبة بعودة باكييف إلى البلاد، والذي من شأنه تأليب الأمور مرة أخرى.
أم من الممكن أن يتعلم هذا الحزب من آثار الأزمة الماضية، ويشغل نفسه بمساعدة الحكومة في إعادة بناء الجمهورية، واستكمال الصورة الدولية لها بعد هذا الإنجاز التاريخي في المنطقة، وبذلك يضربون المثل لجيرانهم في إمكانية نجاح نموذج الدولة البرلمانية؟.
هذه التساؤلات يصعب جدًا الإجابة عليها في الوقت الراهن، حيث إن هذا الحزب وغيره من الأحزاب الفائزة في الانتخابات مشغولين الآن بتنظيم أوراقهم الداخلية، والاستعداد لتشكيل الحكومة.
أضف إلى ذلك ترقبهم لرد الفعل الخارجي عن هذه النتائج، من يوافق ومن يتربص بهم، كل هذه الأمور ربما تجعل الحكم على الأجندة المستقبلية لهذه الأحزاب سابق لآوانه.
وحسب هذه النتيجة، أصيبت الحكومة المؤقتة بصدمة كبيرة بعد الفوز المفاجئ لحزب المعارضة القومي المقرب من النظام السابق، ما يثير المخاوف من تجدد اندلاع نزاعات إثنية جديدة في البلاد.
خاصة أن هذا الحزب يضم عددًا كبيرًا من مسؤولي نظام الرئيس المخلوع، ويرفض الطموحات السياسية للأقليات، ما يهدد بإحياء التوتر.
ولم تكن الرئيسة الحالية أقل صدمة من حكومتها إزاء نتائج هذه الانتخابات، فقد أفاد مصدر مقرب من الرئيسة، روزا أوتونباييفا، لوكالة «فرانس برس»، أنها في حال صدمة ومنهارة بعد معرفتها بفوز حزب آتا-جورت بأكبر نصيب في الانتخابات.
وأظن هذا ليس حقدًا على الحزب أو غيرة منه، لكن أوتونباييفا تعرف بلادها جيدًا، وتعرف ما يمكن أن يؤول إليه الشارع القرغيزي بعد تصدر هذا الحزب للانتخابات، ومن ثم بروزه كقوة سياسية كبيرة في الحكومة المزمع تشكيلها.
كما أنها تخشى أيضًا أن يستند البرلمان الجديد إلى سكان الجنوب، مما يزعج ممثلي الشمال؛ نظرًا إلى النزاع المستمر بين الطرفين.
والحقيقة أن التجربة الانتخابية القرغيزية تجربة أبهرت الجميع سواء من وافق عليها وشجعها، أو من انتقدها قبل بدئها وهاجمها، وحاول جاهدًا إفشالها سواء قبل الانتخابات أو خلالها.
ومن أكثر الأطراف الدولية متابعة لهذه العملية، وأكثرها تلهفًا على نتيجتها كانت روسيا والولايات المتحدة، واللتان تتنافسان وبقوة فوق أرض هذه الجمهورية، حيث يوجد لكل منهما قاعدة عسكرية هناك.
وبالنسبة لردود الفعل لكلتا الدولتين، فقد جاءت مختلفة– كالعادة- فموسكو كانت ترفض هذه التجربة الديمقراطية، وكانت ترى أن قرغيزيا غير مؤهلة لذلك، وأن هذه التجربة ستزيد الوضع عنفًا وتدهورًا.
وظلت روسيا- وما تزال- تتبنى هذه الرؤية تجاه هذه التجربة، وظهر ذلك جليًا في رد فعلها على نتيجة هذه الانتخابات، حيث حذرت من الصعوبات التي تواجه قرغيزيا بعد هذه الانتخابات.
وقال وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، في أول رد فعل روسي رسمي: إن قرغيزستان تواجه فترة صعبة في تشكيل ائتلاف، مضيفًا: إن الانتقال المفاجئ إلى ديمقراطية برلمانية قد يثير الصعوبات.
وهذا يؤكد مدى معارضة الكرملين وجود تجربة برلمانية ناجحة على أرض آسيا الوسطى، ولسنا هنا في صدد معرفة أهداف الروس من ذلك.
يقابل هذا الرأي ما ذهبت إليه واشنطن سواء قبل العملية الانتخابية أو بعدها.
بعد الاستفتاء، انهالت التهاني الأمريكية على هذه الجمهورية يباركون نتيجة الاستفتاء الشعبي، وتحويل هذه الدولة إلى دولة برلمانية تحد من صلاحيات الرئيس.
حيث من شأن هذا– حسب الرأي الأمريكي- أن يساعد في إعطاء الحقوق والمساواة بين أبناء الجمهورية من قرغيز وأوزبك، ومن ثم القضاء على أعمال الشغب والعنف التي تنتج غالبًا نتيجة عدم توافر عدالة في توزيع المناصب أو الحقوق.
وتأكيدًا لهذا الموقف من التجربة البرلمانية القرغيزية جاءت تهنئة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، للناخبين القرغيز بعد مساعدتهم في إنجاز هذه التجربة التي يؤيدها الرئيس وإدارته، ووصف الناخبين ب"المصممين على اختيار حكومتهم بطريقة سلمية وديمقراطية"، على حد قوله. خلاصة القول أن جمهورية قرغيزيا الآن، وبعد نجاح تجربتها الرائدة– وهو نجاح مبدئي طبعًا- تجد نفسها امام تحد كبير جدًا، تتشكل ملامحه في المسارعة في تشكيل حكومة ائتلافية من أهم وظائفها العمل على مصلحة البلاد، وإعادة بنائها.
ومحاولة وأد أي محاولة– داخلية أو خارجية- لإفشال هذا النموذج البرلماني الذي من شأنه تشكيل مستقبل منطقة آسيا الوسطى بأسرها، ولن يتم ذلك إلا بتضافر الجهود، والبعد عن النزعة القبلية أو المصلحة الشخصية.
* باحث في شئون آسيا الوسطي مدير تحرير موقع آسيا الوسطي للدراسات.