نشر المفكر الإسرائيلي اليساري الشهير أوري افنيري علي موقعه في 7/17 مقالاً بعنوان: "بلطجية البرلمان" يعطي صورة حية لما يسمي الديمقراطية الوحيدة بالشرق الأوسط.
وكيف تطورت الممارسة البرلمانية في إسرائيل من مسرحية راقية عند إنشاء الدولة وحاجتها لتدعيم صورتها كديمقراطية وحيدة مسالمة وسط ذئاب من الطغاة العرب يريدون التهامها.
وكيف تدهورت الحياة البرلمانية في إسرائيل وسقط القناع عن الوجه الحقيقي العنصري الشائه للصهيونية. يقول أفنيري: عندما انتخبوني أول مرة لعضوية الكنيست أحسست بالنفور لما وجدت من هبوط المستوي الثقافي للمناقشات مع استثناءات نادرة.
كانت أغلب المناقشات عبارة عن كليشيهات مكررة وسط قاعة المجلس شبه الخالية، وكانت لغة الحوار عبرية منحطة المستوي، ولم يكن كثير من الأعضاء يدرون علي ماذا يصوتون فقد كانوا يتبعون زعيم مجموعتهم البرلمانية.
كان ذلك سنة 1967 عندما كان الكنيست يضم أعضاء مثل إشكول وبنحاس سابير وبن جوريون وموشي ديان وبيجين الذين أطلقت أسماؤهم علي الشوارع والأحياء، وعندما أقارن ذلك المجلس بالكنيست الحالي أجد المجلس الماضي بمثابة أكاديمية أفلاطونية بالمقارنة.
وكان أكثر ما أرعبني استعداد الأعضاء لإصدار تشريعات غير مسئولة للحصول علي شعبية غوغائية خاصة في أوقات الهستيريا السياسية، كان أحد أول أعمالي في الكنيست تقديم مشروع قانون لإنشاء مجلس شيوخ بجانب الكنيست مكون من شخصيات مرموقة تستطيع عرقلة مشروعات القوانين الضارة وإعادتها للكنيست لإعادة دراستها.
ولم يكترث الكنيست بمشروعي هذا ورفضه بشبه اجماع، وسخرت الصحف من مشروعي وسمته " مشروع مجلس اللوردات" ونشرت صورة ساخرة لي في ثياب لورد بريطاني.
ولم يتوقف سيل التشريعات غير المسئولة التي يتسم أغلبها بالعنصرية ومعاداة الديمقراطية، وكلما ازدادت يمنية الحكومة القائمة قلت إمكانية إيقاف مثل هذه التشريعات.
والحكومة الحالية التي تعتبر أحط حكومة في تاريخ إسرائيل تنافس الكنيست في تقديم مثل هذه التشريعات غير المسئولة، والرادع الوحيد في وجه هذا الفساد هو المحكمة العليا، ففي غيبة دستور مكتوب لإسرائيل أخذت المحكمة العليا علي عاتقها إلغاء التشريعات الفاضحة التي تنتهك الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولكن المحكمة العليا نفسها محاصرة بيمينيين يريدون تدميرها، ولذلك تتصرف بحذر ولا تتدخل إلا في الحالات الصارخة، وقد أدي ذلك لوضع متناقض، فالبرلمان الذي يعتبر أعلي تعبير عن الديمقراطية أصبح يمثل أكبر تهديد للديمقراطية في إسرائيل.
والرجل الذي يجسد هذا التهديد حالياً أكثر من أي عضو آخر بالكنيست هو مايكل بن آري زعيم مجموعة " الاتحاد الوطني" وخليفة مائير كهانا الذي أبطل القضاء شرعية تنظيمه "كاخ" منذ سنين طويلة لطبيعته الفاشستية الواضحة.
وقد انتخب كهانا نفسه لعضوية الكنيست مرة واحدة، وكان رد فعل أعضاء الكنيست حياله ثابتاً، فكلما وقف ليتكلم غادر الأعضاء القاعة وبقي كهانا يخاطب حفنة صغيرة من غلاة المتعصبين الباقين في القاعة.
وقد زرت الكنيست منذ بضعة أسابيع لسماع مناقشة تخصني أيضاً وهي عن قرار السلطة الفلسطينية بمقاطعة بضائع المستوطنات كما فعلت حركتنا "جوش شالوم" منذ اثني عشر عاماً، وبقيت عدة ساعات في المبني كان نفوري يتصاعد خلالها.
لم أكن أدرك أن نفوذ بن آري بهذه القوة، فقد أصبح مركز التفاف باقي الأعضاء من كل الاتجاهات حوله، وأصبحت الفاشية الكهانية التي كانت منبوذة مركز الثقل في الكنيست الإسرائيلي.
فعندما وقفت العضوة الفلسطينية حنين زعبي لتشرح للكنيست سبب اشتراكها في أسطول المعونة التركية لغزة مؤخراً اندفعت العضوة أنستاسيا ميخائيل من مجموعة ليبرمان نحو المنصة وظلت تصرخ وتقاطع العضوة الفلسطينية وتحاول إنزالها بالقوة من فوق المنصة، واندفع عدد آخر من الأعضاء يساعدونها.
ولا يكاد الإنسان يتصور تناقضاً أكبر من التناقض بين هاتين المرأتين، فحنين زعبي تنحدر من أسرة من الناصرة تعود جذورها ربما لعصر المسيح، بينما أنستاسيا ميخائيل ولدت في روسيا وتزوجت إسرائيلياً فتحولت لليهودية وهاجرت لإسرائيل وسنها 24 سنة.
ولم يرفع نائب واحد أصبعا للدفاع عن زعبي وحقها في الكلام، وهو شيء لم يحدث طوال عمر الكنيست خلال 61 عاماً، فقد اتخذ الكنيست الأسبوع الماضي قراراً بناء علي اقتراح بن آري بإسقاط عضوية الكنيست عن زعبي، وأيد حزبا "كاديما" و"الليكود" الاقتراح.
وطلب وزير الداخلية إيلي بيشاي إسقاط الجنسية الإسرائيلية عن زعبي علي أساس أنها خائنة لإسرائيل. وفي اليوم نفسه قرر الكنيست حرمان عزمي بشارة مؤسس حزب زعابي من معاشه المستحق عندما استقال من الكنيست.
ولا تخفي القوي الواقفة وراء هذه القرارات - وهي أساساً حزب ليبرمان والأحزاب الدينية - نيتها لطرد كل الأعضاء العرب من الكنيست ليصبح يهودياً خالصاً. وقرر الكنيست هذا الأسبوع جعل شرط الحصول علي الجنسية الإسرائيلية أداء الشخص يمين الولاء لإسرائيل " كدولة يهودية ديمقراطية".
ولنا أن نتصور لو أن أمريكا قلدت هذا الشذوذ فجعلت شرط الحصول علي الجنسية الأمريكية أن يقسم الشخص يمين الولاء لأمريكا " كدولة من البيض الأنجلو سكسون البروتستنت".
ولا يبدو أن هناك حدا لهذا الاستهتار البرلماني، فيبدو الاتجاه واضحاً لحرمان عرب إسرائيل وهم 20? من مواطنيها ليس فقط من عدم وجود ممثلين لهم بالكنيست ولكن حرمانهم من جنسيتهم الإسرائيلية نفسها تمهيداً لطردهم من إسرائيل.
وما يحدث مع عرب القدس حالياً هو مقدمة لما يدبر، فقد تم سحب حق الإقامة في القدس من الأربعة نواب لحماس الذين انتخبوا عن القدس العربية في المجلس التشريعي الفلسطيني طبقاً لاتفاقيات أوسلو، وجدير بالذكر أنهم عرب من مواليد القدس التي سكنها أسلافهم قروناً عديدة.
ويخطئ من يظن أن هذه القرارات الصارخة البطلان ستضر العرب وحدهم.
فالخطوة التالية ينذر بها مشروع قانون ناقشه الكنيست الأسبوع الماضي يفرض عقوبات قاسية علي من ينادي بمقاطعة إسرائيل اقتصادياً أو سياسياً، خصوصاً منتجات المستوطنات التي يحق لها الحصول علي تعويض مالي كبير من كل من ينادي بمقاطعة منتجاتها سواء كان يهودياً أو غير يهودي.
المؤسف أنه منذ إنشاء إسرائيل وهي تزهو بزعمها أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة وأن الكنيست هو البرلمان الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط.
ولكن ما انحدرت إليه الممارسة البرلمانية علي يد غوغائية اليمين المتطرف الذي يسيطر تماماً علي الكنيست يدمر تماماً سمعة الديمقراطية الإسرائيلية ويضم الكنيست إلي مجموعة " برلمانات" ليبيا واليمن والسعودية.
وإلي هنا ينتهي عرض أفنيري عن الممارسة "الديمقراطية" الحالية في إسرائيل التي أهمل فيها أفنيري ذكر " برلمان" عربي آخر يضم نواب الكيف والقروض ونهب أراضي الدولة ونهب الملايين المرصودة لعلاج الفقراء ونهب المليارات تحت راية الخصخصة... إلخ .
*كاتب من مصر عضو الهيئة العليا لحزب الوفد جريدة الوفد 3/9/2010