جورجيا والشرق الأوسط: الحرب الباردة العربية!! هاني حبيب لولا مغامرة رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي، ربما لم نكن لنسمع ونتعرف على تلك التحولات الجارية على تخوم الاتحاد الروسي، خاصة وان أستونيا الجنوبية، كما الشمالية وأبخازيا، كلمات تدل على مناطق ومقاطعات بالكاد يتعرف عليها المطلع والمتابع الا نادراً، فما بال القارئ الهاوي الذي بات يعرف - إن أراد - الكثير عن تلك المنطقة المهجورة من وسائل الإعلام قبل مغامرة الرئيس الجورجي الاخيرة، نقول الاخيرة. لأن ساكاشفيلي سبق وأن قام بمغامرات عديدة قبل تلك التي نتحدث عنها، فقد كان قد انقلب على رئيسه ادوارد شيفارنادزة بما بات يعرف بالثورة الوردية العام 2002، وخلفه فعلاً برئاسة جورجيا، قاطعاً تعهدين للناخبين، استعادة الاقليمين المنفصلين اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وضم جورجيا الى حلف شمال الاطلسي، الرئيس الجورجي الذي يحمل الجنسية الاميركية، اضافة الى جنسيته الجورجية، اعاد الى الأذهان والفعل ربما، ما نسبه الرأي العام عن "الحرب الباردة" التي يقول بعض المحللين انها عادت للبروز من جديد بفضل المغامرة التي اقدم عليها ساكاشفيلي، بدعم اميركي، ليس من خلال الرئيس بوش، ولكن من خلال نائبه تشيني، الذي استهدف تحسين فرص المرشح الجمهوري للرئاسة الاميركية ماكين في صراعه مع المرشح الديمقراطي اوباما على خلفية الاشارة الى ان مثل هذه الحرب، الحرب الباردة، لا يمكن التعاطي معها الا من خلال رئيس اميركي صاحب تجربة واسعة في العلاقات الخارجية، وهو الامر الذي يفتقر اليه اوباما، الذي كشف عن ذلك، من خلال اختياره نائباً له، يتميز بقدراته في السياسة الخارجية، لسد النقص الذي لدى الرئيس المحتمل!! لا نريد ان نتوسع في هذه المقالة بسياقات المسألة الجورجية، رغم ان لدينا الكثير الذي يقال حولها، ويهمنا هنا تناول تداعيات هذه المسألة على قضايا الشرق الاوسط، خاصة ان زيارة الرئيس السوري بشار الاسد الى موسكو، واعلانه وقوف بلاده الى جانب روسيا في صراعها الجديد، قد فتحت المجال لتناول تأثيرات هذا الصراع على المحيط العربي والشرق الاوسط بشكل عام، نظراً لترابط التأييد السوري مع الموقف الروسي، مع الكشف عن تورط اسرائيلي في تخطيط مغامرة ساكاشفيلي وتسليح جيوشه، كل ذلك مع أنباء عن احتمال تزويد روسيالدمشق بأسلحة حديثة كانت تمتنع منذ وقت طويل عن تزويدها بها، حيث لا يعدو هذا الامر مجرد تجارة وصفقات، بل هو شكل من أشكال الصراع بين الشرق والغرب في اطار الحرب الباردة الثانية. الموقف السوري، صاحبه انتقاد متواصل من اطراف عديدة، بما فيها اسرائيل، اذ ان هذا الموقف يتعارض مع النوايا المعلنة لدمشق بالتوصل الى سلام شامل مع اسرائيل عبر بوابة الوساطة التركية، اطراف عربية انتقدت دمشق، لأنها فتحت بوابة الانحياز الى معسكر في مواجهة معسكر آخر، علماً ان معظم هذه الاطراف المنتقدة، تنحاز الى معسكر بعينه وهو المعسكر الاميركي، الا ان وضوح الموقف السوري أذهل هؤلاء المنتقدين الذين اشاروا الى ان المنطقة ستبدأ سباقاً للتسلح، كما لو ان ذلك لا يحدث فعلاً، لأسباب لا تتعلق مباشرة بقضايا الشرق الاوسط الا نادراً، خصوصاً اذا لاحظنا التسلح السعودي المرتبط بقضايا الخليج وايران على وجه الخصوص، واعادة تدوير "البترو دولار" ليعود الى الولاياتالمتحدة من جديد من خلال صفقات الاسلحة المتواصلة بما يوازي تدفق النفط الى الصناعات الاميركية والغربية عموماً. ولكن لدينا اسباب اخرى، للتمعن بالموقف السوري ازاء القضية الجورجية، تتعلق بمدى حاجة موسكو الى مثل هذا الموقف في الصراع مع الاطلسي! ذلك اننا نعتقد ان من تحدث عن تعزيز سورية بالسلاح الروسي المتطور كصواريخ اسكندر، لم يأت من الجانب الروسي، بل من السوريين الذين نفوا ما قالوه عن ذلك مؤخراً، موقف سورية ازاء الازمة، لا يجعل منها حليفاً مطلقاً لروسيا، فيد اسرائيل الطويلة في جورجيا كما في غيرها من دول القوقاز لا تعادل كفة الدور السوري، يضاف الى ذلك بعداً آخر لا يقل اهمية، يتعلق بالمؤتمر الدولي الخاص بالشرق الاوسط الذي دعت اليه روسيا لينعقد في موسكو قريباً، هذا يتطلب سياسة روسية، تمكن موسكو من لعب دور الوسيط اذا ارادت لهذا المؤتمر أن يعقد، حتى لو لم ينجح، سبق وأن تحفظت اسرائيل على هذا المؤتمر، ومعها الولاياتالمتحدة، وبالتالي فإن استرضاءها من قبل موسكو، سيظل هدفاً روسياً حتى تتمكن من انعقاد مثل هذا المؤتمر بموازاة مؤتمر أنابوليس برعاية اميركية قبل حوالي عام. كانت الاسباب الايديولوجية هي اساس التحالفات التي أقامها الاتحاد السوفياتي لتعزيز نفوذه في مواجهة الغرب ابان الحرب الباردة، اليوم، لم تعد حتى في ظل الحرب الباردة، عناصر ايديولوجية تتحكم في مثل هذه التحالفات، وعوضاً عن الايديولوجيا هناك المصالح الاستراتيجية والاقتصادية بالدرجة الاولى، وبالتالي فإن محاولة روسيا "وخز" الولاياتالمتحدة والاطلسي من خلال الحليف السوري، لا تعدو كونها وخزاً لا أكثر، وربما هذا ما سيقوله الرئيس الروسي ميدفيديف لرئيس الحكومة الاسرائيلية اولمرت عندما يلتقيان في موسكو بعد اسبوع. سورية التي لا تحظى مواقفها بدعم عربي رسمي، لن يحول موقفها من استخدام الولاياتالمتحدة اوراقاً عربية اخرى في مواجهة موقفها في اطار الحرب الباردة الثانية، وربما تلجأ واشنطن الى اعادة فتح ملف الشيشان من جديد، وهذا يتطلب بعداً إسلامياً، ربما يطلب من الرياض ان تتكفل به، مع ملاحظة العلاقات المتردية بين دمشقوالرياض في الآونة الاخيرة، ما يجعل الحرب الباردة الثانية، تمتد لتصل الى المنطقة العربية اكثر زخماً وقوة من خلال انحيازات وتحالفات جديدة قديمة، منطقتنا العربية تربة صالحة لاستنساخها. مع ذلك، فإننا نحاول أن نضع الامور حيث هي، ذلك ان المبالغة في الدور السوري ومواقفه ازاء الازمة الجورجية، تعطي دمشق دوراً اكبر مما هي تستطيع، كما ان اللاعب الروسي يمتلك الادوات الاكثر قدرة على المناكفة من سورية، كما انه يتطلع الى داخله اكثر مما يراقب من حوله، ونقصد هنا وضعه الداخلي الذي يمكن أن يهتز اذا ما انتقلت افغانستان الى جمهورياته الاسلامية، والامر بنظرنا اكثر تعقيداً من ان نجعل من الموقف السوري معياراً لتحولات الحرب الباردة الثانية!!. عن صحيفة الايام الفلسطينية 27/8/2008