.. وتبقي حرية الصحافة هي الأهم صلاح الدين حافظ هذه عاصفة عاتية علي الصحافة, تحمل من الغبار الكثير, مثلما تحمل نذر شر مستطير, يهدد هامش حرية الرأي والتعبير الذي تتمتع به الصحافة المصرية, علي مدي السنوات الأخيرة. عاصفة ليست الأولي ولن تكون الأخيرة, لكننا تعودنا علي هبوبها, كل بضع سنوات, وبالمقابل تعودنا الاستعداد لمقابلتها ومقاومتها, ونظن أن هذه المواجهات لن تتوقف, طالما أن المجتمع يتطلع إلي تعميق وتوسيع هامش حرية الصحافة الراهن, طريقا لإطلاق الحريات الديمقراطية العامة الأخري, وطالما أن في دهاليز البيروقراطية المصرية العتيقة, يعشش أعداء هذه الحرية, ويتربصون بها في كل وقت وحين.. وبقدر مسئولية القوي المعادية للحرية عن هذه العاصفة, بقدر مسئولية الصحفيين وحملة الأقلام, في ممارسة الضغوط والضغوط المضادة, بل في ارتكاب التجاوزات التي تسمح للطرف المعادي بشن الهجوم الهادف إلي كبت الحرية, أو إلي استدراج الصحف والصحفيين إلي مواقع الزلل ومواضع الخطأ لكي يدفعوهم إلي المحاكم.. نتحدث عن النموذج الذي تمر به الصحافة المصرية هذه الأيام, في ظل عاصفة ما تردد عن نشر شائعات حول الحالة الصحية لرئيس الجمهورية, أدت إلي قلق عام ليس فقط علي صحة الرئيس, بل علي مستقبل البلاد, وهي عاصفة ألقت بالزميل إبراهيم عيسي رئيس تحرير صحيفة الدستور الخاصة, إلي المحاكمة بتهمة نشر وترويج الشائعات.. ومازاد العاصفة شراسة أننا أصبحنا في الحقيقة أمام أكثر من حالة يمكن وصفها بالتربص والتحرش بحرية الصحافة من ناحية, مثلما يمكن وصفها عند الطرف الآخر المعادي للصحافة, بأنها تجاوزات لايمكن السكوت عليها.. ** الحالة الأولي هي الأسخن, تلك التي تتعلق بالشائعات حول صحة رئيس الدولة, التي بدأت علي استحياء عبر الهواتف النقالة, ثم نشرت في الخارج, ونسبت إلي تصريحات خاصة للسفير الأمريكي بالقاهرة, لكنها في النهاية وجدت طريقها لعدد من الصحف الخاصة, وهي تحديدا صحف الدستور والكرامة والبديل, التي اتهمها تقرير المجلس الأعلي للصحافة, بأنها ارتكبت تجاوزات من شأنها النيل من المقومات الأساسية للمجتمع والسلام الاجتماعي وإثارة الفزع وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة... كما قال التقرير.. هكذا أخذ رئيس تحرير جريدة الدستور, انتقاء من الآخرين, طريقه إلي التحقيق أمام نيابة أمن الدولة, التي أحالته إلي المحاكمة في أول أكتوبر المقبل.. ومن يدري من سيتبعه غدا أو بعد غد.. **الحالة الثانية, تبدو جلية في الحكم الابتدائي الذي أصدرته محكمة العجوزة يوم أول رمضان13 سبتمبر2007, والقاضي بحبس أربعة رؤساء تحرير صحف خاصة هم: إبراهيم عيسي الدستور ووائل الإبراشي صوت الأمة وعادل حمودة الفجر وعبدالحليم قنديل الكرامة لمدة سنة مع الشغل والغرامة20 ألف جنيه لكل منهم! التهمة هي أيضا نشر أخبار كاذبة عن رموز الحزب الوطني, وسب وقذف رئيسه الرئيس حسني مبارك... وبرغم أن هناك مرحلة استئنافية للحكم فإن التوافق الزمني بينه وبين الحالة الأولي, والتلازم الذي جمع أربع صحف خاصة, يشير إلي استهداف معين.. ** أما الحالة الثالثة, فقد وقعت أسبق من الحالتين الأولي والثانية, حين صدر حكم بالغرامة علي الكاتب والشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي, بمبلغ20 ألف جنيه لصالح الشيخ يوسف البدري في قضية سب وقذف, ضمن حملات الحسبة التي يشنها الشيخ ضد عدد من المثقفين والكتاب, الذين اعتبروا مثل هذه القضايا انتهاكا لحرية الرأي والتعبير! فإذا ما علمنا أن هناك أكثر من مائتي قضية تتداولها أروقة المحاكم المصرية, ضد صحفيين وكتاب, لعرفنا قدر المخاوف والهواجس التي تنتابنا, خوفا علي الهامش المحدود من حرية الصحافة الحالي, ولأدركنا أن الحالات الثلاث السابق ذكرها, إنما تمثل قمة جبل الجليد الظاهر للعيان, بينما ما خفي كان أعظم وأخطر, في ظل مناخ تحريضي للأسف يلعب فيه اللاعبون بالنار بكل شطارتهم وبكل تنوع ارتباطاتهم.. هكذا تجد الصحافة وهامش حريتها, نفسها وسط واحدة من أشد العواصف الهوجاء, التي تحمل نذرا شديدة وتشعل حرائق عديدة ليس في الجسد الصحفي فقط ولكن في جسد المجتمع كله, هدفها عرقلة أي مطالب شعبية حقيقية بإصلاح ديمقراطي حقيقي.. ولأن الأزمة بهذه الخطورة والتعقيد, نوضح النقاط المحورية التالية: (1) حرية الصحافة والرأي والتعبير هي مقدمة الحريات الديمقراطية الأخري, ولا تنازل عنها في سعينا لإقامة مجتمع ديمقراطي, وبالتالي لا نقبل انتقاصا أو اعتداء علي الهامش المحدود لحرية الصحافة الحالي مهما يكن الثمن والتضحيات.. (2) في ظل حرية الصحافة, يمكن أن تقع تجاوزات, وانظروا إلي ما يحدث في الصحافة البريطانية والفرنسية والأمريكية, من تجاوزات كبري, ولكن علاج التجاوزات لا يتم بالعقوبات القاسية, خصوصا الواردة في18 مادة من قانون العقوبات المصري, إنما للعلاج طرق ديمقراطية عديدة, إن حسنت نيات كل الأطراف وتراجع التربص والتحرش, وسيطر الالتزام المهني والأخلاقي.. (3) مبدأ الحرية مسئولية هو المبدأ الذي يجب أن نعليه ونعظم من ثقافته, عند الحاكم والمحكوم, وهو أدعي وأهم عند كل من يمسك القلم ليكتب بحرية وينتقد بموضوعية ويعتمد علي الحقائق والأرقام والوقائع, بعيدا عن الشائعات والأخبار مجهولة المصدر, بشرط أن تتوافر له الأخبار معلومة المصدر.. (4) هناك فوارق رئيسية بين الخبر والشائعة, الأول يعتمد علي معلومة صادقة موثقة, والثانية تعتمد علي كلام مرسل ووقائع مجهلة يصعب اثباتها.. هكذا تعلمنا.. (5) في موضوع العاصفة الأخيرة, أي الشائعة التي تناولت صحة الرئيس, نعتقد أن الشائعة انتشرت سريعا, لارتباطها بصحة رئيس الدولة, وهذه قضية مهمة, قضية رأي عام من حق الجميع أن ينشغل بها ويعرف تفاصيلها باعتبارها شأنا عاما, وليست خصوصية فردية وحرية شخصية كما حاول بعض المحرضين القول! وقد كان من الممكن مواجهة هذه الشائعة منذ اليوم الأول لسماعها وتداولها, حتي قبل أن تنشرها الصحف المتهمة, لو أننا مارسنا الشفافية, ولو أن مسئولا خرج ببيان سريع يفند الشائعة, ويوضح طبيعة الحالة الصحية للرئيس, كما حدث في حالات أخري سابقة, لكن القصور أو التكاسل الرسمي في مواجهة الشائعة منذ البداية, تركها تكبر وتنتشر في الداخل والخارج, بأسرع من قدرة الأجهزة المسئولة علي التلبية والاستجابة! *** وهنا تكمن الأزمة المهمة, التي يجب أن تعالج قبل غيرها, ونعني أزمة حرية المعلومات وحق المجتمع في تداولها, وحق كل مواطن, وخصوصا الصحفيين والإعلاميين في الحصول عليها من مصادرها الأساسية, ذلك انه في غياب المعلومات تنتشر الشائعات, كل منهما يناقض الآخر وينفيه, وبدون ضمان حرية المعلومات, ستظل ماكينة الشائعات دوارة نشيطة. بقيت نقطة محاسبة الكتاب والصحفيين, ونقول فيها ان الصحفيين والكتاب ليسوا معصومين من الخطأ, ولكنهم أشد الناس رغبة في ممارسة الحرية, وأقدرهم علي تحمل مسئوليتها, طالما أن المناخ العام صحي, والبيئة الحاضنة تؤمن حقا بحرية الرأي والتعبير وتمارسه وتحميه بسند من الشرعية والقانون العادل, الذي لايكيل بمكيالين, ولا يشدد العقوبات علي الصغيرة والكبيرة. ولابد أن يعرف الرأي العام, أن الكتاب والمثقفين والصحفيين, يعملون ويكتبون, في ظل خوف دائم من مواد قانون العقوبات العديدة, التي تعاقب بالحبس والغرامة, ناهيك عن القوانين الاستثنائية الأخري, وخصوصا قانون الطوارئ, بكل ما فيه من مواد مقيدة للحريات حين استخدامها. وبرغم اعترافنا بهامش حرية الصحافة القائم وإيجابياته المعروفة, فإن جرجرة الصحفيين المستمر والمتوالي للمحاكم, في كل صغيرة وكبيرة, تدل علي أن التسامح مع حرية الصحافة هو عمل ودي, لأن العقوبات المغلظة تكمن في مواد قوانين عديدة في مصر المحروسة, هي المواد السالبة للحريات كما هو معروف, وهي قوانين تسحب من الأدراج لتطبق فورا علي من يراد معاقبته وتغفو عن غيره. إن العاصفة الحالية, التي هبت علي الصحافة وحرية الرأي, تستدعي فتح الملف كله, وإعادة دراسة موضوعاته بدقة وحرية وضمير, لكي نضع صيغة جديدة لعلاقة الصحافة بالسلطة, وعلاقتها بالمجتمع, وساعتها نقول انه بقدر حريتها تتحدد مسئوليتها. هذه دعوة صادقة بل صرخة عالية, نوجهها لنقابة الصحفيين, ولكل المثقفين والكتاب الأحرار, لكي نفتح الملف بجرأة, ونناقشه مع الدولة بشجاعة, بدلا من أن نترك التجاوز من ناحية, والتحريض من ناحية أخري, يقضيان علي هامش حرية الصحافة القائم, بل علي الأمل في المستقبل الديمقراطي المبتغي. *** ** خير الكلام: يقول الشريف الرضي: في كل مظلم أزمة أو ضيقة يبدو لها أثر اليد البيضاء عن صحيفة الاهرام المصرية 19/9/2007