طقوس السياسة وعبادة القوة د. خليل أحمد خليل مجتمعياً، دخل لبنان في عنق زجاجات أزمات السياسة الأمريكية، ومع ذلك، لا أحد في منطقتنا هذه يتبنى أزمته الخاصة به، لكأن الأزمات يتيمات كالهزائم. فما يسود لبنان الآن يدعو الى التفكير المختلف بواقع الحال، والإ فلا معنى للسياسة. الواقع القذر والظالم الذي يعيشه اللبنانيون المقيمون لا يشي بأي أملٍ في تغير اللعبة السياسية هنا، فلا يبقى عليهم سوى تغيير عيونهم، بانتظار تغير قواعد الصراعات الدولية/الإقليمية على هذه المنطقة المنكوبة بطقوس السياسة، بعد انهيار طقوسها القديمة وتبدل ديكورات السياسة الأمريكية ما قبل 11/9/2001. عادةً، يُقال، “الطقسوس" أو “الطقسوسة" على ما يتبقى من ملابس أو أطمار بالية، وأيضاً على بقايا الأشجار بعد احتراقها (Ifs). ولكن في المجتمع اللبناني، حيث الناس رهائن نزاعات على سلطات مرتهنة، يتخذ “المرؤوسون" صفة “الرؤساء"، مسلحين بطقوس السياسة، المؤدلجة أكثر من أي وقت معنى، والمروجة بوسائل إعلامية تفتقر كثيراً الى الموضوعية، وأكثر الى العلمية أي تقديم المعلومات كما هي. وهكذا بإزاء مجتمع متعب، يواصل تفككه وتدمير نسيجه الحيوي، وتراجع نموه الاقتصادي على إيقاع عنف متصاعد، لا يتوقف المرؤوسون عندنا عن التباري في “عبادة القوة"، قوة الآخرين، أكثر بكثير من قوة اللبنانيين المقيمين أنفسهم، ولا تنهض طقوس المجتمع لوقف هذه المقتلة الصامتة، ربما خوفاً من المحرقة الصاخبة التي شهدوها في مخيم نهر البارد ويخشون مما وراءها أو بعدها. كل فريق يدعي لنفسه قوةً، تبرر له خطابه السياسي بإزاء فريق آخر، فيضعون الناس أمام خيارات فاسدة، تتعدى أزمة لبنان الوضعية، ولا يتخذون قراراً واحداً لإخراج لبنان من فوهة بندقية أو من قاع انحطاط. المشكلة أنهم لا يختارون لبنان إلا بمواربة، كأنما دولته المنشودة لا تستوي إلا موروبةً، مثل كل الطقوس. فعلى اللبنانيين أن “يختاروا" بين إمبراطورية أمريكية وإمبراطورية “إسلامية" منشودة “سنياً" أو “شيعياً"، كما يُقال: بين إيران وسوريا، مثلاً، و"إسرائيل" وبين ... وبين ... إلى آخر التباينات التي تقومُ عليها لعبة “المرؤوسين" السياسيين اللبنانيين. ولو اتخذوا قراراً بأولوية لبنان، كما بدأ البعضُ يُنادي، فلربما خرجوا هم أولاً من عنق الزجاجة، ثم سعوا إلى إخراج بلدهم مما هو فيه. إلاّ أن ما يحدث الآن، وربما غداً، لا يبشر بشيء من ذلك. لماذا ؟ لأن المرؤوسين عندنا لا يتصرّفون فقط كرؤساء مخدوعين، إذ إن عبادة القوة، التي استعاروا موادها من آخرين، جعلتهم يتخيلون انهم “أباطرة"، “قياصرة" أو “أكاسرة"، لا فرق، طالما أنهم يعتمدون طقوس سياسة أمريكية أو غير أمريكية، منتشين بخطابهم السياسي السحري، وهم يخاطبون مجتمعاً “فليّساً"، يطرحون فيه أخشابهم ويعزمون عليها صائحين: “كوني أسماكاً"! وها هي “الأخشاب" تطفو على مدى “طوائف" تخاف من بعضها، وتتمنى الموت أي القتل لغيرها، أي لذاتها، ومع ذلك تحلم بعدالة أو مساواة، حتى من داخل تجربة أهل الكهف السياسي اللبناني. لقد أفلح المرؤوسون إذن في ترويج البطر السياسي، وجعل كل طائفة تعبد قوّتها المظنونة، بينما لبنان ذاته يتهاوى، خارج العصر، خاسراً ما تبقى له من مقوّمات بقاء، فيما وحوش الغلاء تنافس وحوش الإرهاب المادي والمعنوي. وعلى إيقاع هذا البطر السياسي، البطريركي بامتياز، ترنو كل طائفة الى أبيها السياسي، وهي تظنه رحيماً، رؤوفاً بها. وتزداد في لبنان انهيارات الأعصاب وانفجارات القلوب والأدمغة، طالما أن السياسة باتت “طقسوساً" بلا جدوى. إن عبادة القوة تؤشر إذن إلى قرار الحرب، الحرب على الأهل أولاً: والحرب على الجوار أو المحيط الذي بدوره يرى لبنان بعين الحرب، وطقوس السياسة هذه تغتذي يومياً من “قوة" رقاها المرؤوسون السياسيون إلى “قوة معبودة" على غرار وثنيين، كانوا يرون بعيونهم مصرع آلهتهم التي لا تموت في وهمهم- فيصطنعون لها أوثاناً وأصناماً ومقامات، ليعبدوا “قوتها" ولو ميتة! ولئن كان المرؤوسون عندنا “أقوياء" كما يخالون، فلماذا لا يتبرعون ببعض هذه القوة المزعومة لمجتمعٍ استنفدوا طاقاته البشرية والمادية؟ ولئن صار حالهم كذلك، فعلى ماذا يراهنون؟ يتساءل متسائلون. بعد استنفادهم مقومات الدولة، وتفكيكهم هياكل السلطات وديكوراتها، يراهنون الآن على استنزاف المجتمع اللبناني، تهديداً وتخويفاً من “المصير المجهول" لكأنَّ “المصير المعلوم" الراهن غير مخيف كفاية! ما داموا مرتهنين فسوف يواصلون رهاناتهم هذه إلى أن يخرج أهل الكهف اللبناني من سجنهم الإعلامي والسياسي، ويرون “مرؤوسيهم" كما هم، لا كما يتزينون لهم في “إعلامهم" الخاص بهم وحدهم. فلا صوت خارج “شاشة" الارتهان العام، الذي يتوسلونه لتصنيع جمهور “يُناسب" نرجسيتهم أو عبادة “قوتهم" من خلال “شخوصهم". لكن ما يهمسه اللبنانيون من وراء ظهور “مرؤوسيهم" المنتحلين صفات “رؤساء" يستحق الالتقاط والتحليل والتظهير، خصوصاً أن هذه الحقبة المظلمة من حقب التقاصص اللبناني تحول دون كف اللبنانيين عن مراقبة بعضهم لمعاقبة ذاتهم. أمام جمهور لبناني يعاقب نفسه بأيديولوجيات “طقسوسية"، ولا يُعاقِب معذّبيه، يبقى اختيار لبنان وطناً أخيراً ودولةً كاملة، هو المضمون السياسي لكل وحدة وطنية، بلا مواربة، وخصوصاً بلا كراهية. وحين لا تسود هذا المجتمع ثقافة الواقع اللبناني الجديد، المتغير من داخله بقوة أهله، لا أمل بقيام دولة جميع اللبنانيين، دولة مجتمعهم المدني المتقدم على “تقاسم الأهالي" والمتفوق على “مرؤوسيهم" المنتحلين صفات “رؤساء". فالعالم يتقدم بالعلم نحو علمانية كونية، والمجتمع اللبناني يسير في هذا الاتجاه: فلا يبقى، قريباً، سوى الكشف عن طقوس السياسة “اللبنانية"، المتشابكة مع سياسات ينبغي عدَّها، حصرها، ودحضها، تمهيداً لإزالة مظاهر “عبادة القوة" التي ضلّلت المجتمع عن مطالبه الحقيقية، العدالة لكل اللبنانيين، الخبز والعمل والكهرباء والطرقات والبيوت.. لا خيام في ساحة رياض الصلح، ولا خيام في قرى الجنوب المدمّرة. عندما يُرغم هؤلاء المرؤوسون على التحرر من عبادة القوة، سيكتشفون مدى إساءاتهم لشعب لبنان، باسم أوهام اصطنعوها لأنفسهم وفرضوها بالعنف على مجتمعهم. ولن يكون لهم ذلك إلا بقوة المجتمع الذي بدأ ينهض من موته السياسي. عن صحيفة الخليج الاماراتية 18/9/2007