أين أخطأت المقاومة اللبنانية؟ مصطفى علي الجوزو إن الحرص على المقاومة يقتضي نقد أفعالها نقداً بناء، لا نقداً كيديّاً، إذا صح التعبير. ولعل دخولها في العمل السياسي العلني هو الخطأ الأساسي، الذي تتفرع منه سائر الأخطاء. إن من صفات المقاومة الجوهرية أنها سرية، فمتى مارست العمل السياسيّ العلني فقدت جوهرها، وأصبحت مكشوفة للأعداء ومؤامراتهم؛ أو شُغلت، على الأقل، بما يعطل عملها جزئياً أو كلياً. بل إن العمل السياسي العلني يوشك أن يكون نذيراً بانتهائها. ومن غير المتصوّر، مثلاً، أن يدخل الجنرال ديغول في حكومة برياسة الماريشال بيتان، مع أنه كان مساعداً له في الجيش، ومع أن بيتان كان ضابطاً وطنياً لامعاً، أبلى بلاء حسناً في الحرب العالمية الأولى، وتولى رئاسة الحكومة بثقة شبه إجماعية، ثم انتخب رئيساً للدولة الفرنسية، بسبب تاريخه المؤتلق، بنسبة تزيد على خمسة وثمانين بالمئة من أصوات مجلسي النواب والشيوخ، وهي نسبة ضخمة في دولة تعد من أكثر الدول ديموقراطيةً في العالم؛ لكنه عندما هزمت بلاده أمام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وكان رئيساً للحكومة، ساورته قناعة، كقناعة أولئك الذين اختاروا ما سمي الاعتدال من أبناء جلدتنا، بمسالمة العدو لعدم القدرة على محاربته، فهادن دولة الاحتلال وتعاون معها، من غير الرضوخ الكلي لها؛ وحاول مع ذلك أن يظل على صلة سرية بالحلفاء وبالمقاومة الفرنسية. لكن لا يمكن اجتماع من يقاوم الاحتلال ومن يهادنه أو يحالفه. ولا يصحّ القول: مفروض علينا أن نتعايش على هذه الصورة؛ لأن ذلك أشبه بالمخادنة التي فرضت إقامة رجل وامرأة تحت سقف واحد، لمجرد أن كلاً منهما محتاج إلى المسكن نفسه. فهو تعايش لا التزام فيه بل مساومة فرضتها الضرورة المزعومة، وقد يفضي إلى نقض العلاقة وإقامة علاقات أخرى، والطرفان متساكنان؛ هذا ما لم يعمل كل منهما على إخراج الآخر من المنزل. صحيح أن المقاومة قد تكون في حاجة إلى من يحمي ظهرها داخل الدولة، ولا سيما بعد تعرضها للحرب الداخلية والخارجية معاً، لكن ذلك لا يقتضي ظهورها السياسي العلني، والدخول في المجلسين، بل كان ينبغي أن تكون ممثلة بأصدقائها وأنصارها شعبياً ورسمياً، فيكون كل أعضاء كتلة الوفاء للمقاومة، مثلاَ، إذا كانت هذه التسمية ضرورية، من أولئك الأصدقاء والأنصار، لا من أعضاء المقاومة أو المنخرطين في حزبها. إنها بذلك تتفادى السهام المباشرة التي تطلق عليها، والمعارك المجانية المفتعلة التي تدبَّر لها، فتتحاشى مخاطر تحجيمها. إن المقاومة كالهواء، نشعر به ولا نراه، فإذا دخل في وعاء أصبح أسيراً له، واتخذ شكله وحجمه. ومشاركة المقاومة في أعمال الدولة نفي لنفسها، وتسويغ للمقولة المغلوطة التي تزعم وجوب انضوائها تحت لواء الجيش، أو عملها ضمن إطار الدولة أو في كنفها، أو جعل الدولة كلها دولة مقاومة؛ ذلك لأن الدخول السياسيّ في الدولة تمهيد للدخول العسكري فيها أو للاستقالة. وفي الحالين على كل حال انتفاء؛ وفيهما، بعدُ، تحقيق لرغبات الخصوم. والأزمة الحكومية الماضية لم تكن إلا نتيجة طبيعية لتلك المشاركة، وللعمل السياسي العلني، لأنها كانت محاولة لجمع النقيضين، وكانت طريقاً مفضياً إلى دخول وزراء المقاومة في المعارضة؛ لأن من طبيعة الدولة أن تلغي الوجود المسلح الذي لا يخضع لها، ومن طبيعة المتعرّض للإلغاء أن يقاومه؛ ولذلك نشأت تلك الحالة الشاذة، وهي اجتماع المعارضة والموالاة في حكومة واحدة، وكان الصدام فالانشقاق، والجدل في الدستورية والشرعية، وما تلى ذلك من أحداث تؤكد كلها أن الدولة المنفية أصلاً لم تزل منفية، وأن المقاومة لا يمكن أن تنخرط فيها، بل يمكن أن تؤسس لدولة جديدة إذا انتصرت في الداخل والخارج انتصاراً حاسماً. وهنا يحضر الكلام على ما سمي الدولة داخل الدولة، وهو كلام غير دقيق، وصوابه نشوء دولة المقاومة في أرض ليس عليها دولة. إن الأُنظومة التي لا تستطيع الدفاع عن شعبها وأرضها، والتي تستمد قوتها من الخارج، وتبدو المافيات والمليشيات والسفارات فيها أقوى من المؤسسات الرسمية، لا يصح أن تسمى دولة. وهكذا كانت حالة لبنان حتى الآن. على حين أن المقاومة، وبغض النظر عن اختلاف الآراء في إيديولوجيتها وتحالفاتها الخارجية، ورؤيتها للقضايا العربية والإسلامية، حمت أرضها، وكانت قيادتها صاحبة السلطة الحقيقية على المجال الذي تدافع عنه، أو يقيم فيه جمهورها، فهي دولة بهذا المعنى؛ ويصعب التفكير في استقالتها حتى تقوم دولة مستقلة حقيقية ذات مؤسسات قادرة وفاعلة. وهنا موضع المفارقة: مقاومة لها دولة حقيقية فرضتها الطبيعة والضرورة، واستطاعت أن تحقق في الميدان العسكري ما عجزت عنه الجيوش النظامية في الدول العربية قاطبة، تشارك في دولة وهمية. والغريب في ذلك هو محاولة دولة المقاومة تلك، وهي كائن فعلي، انتزاع اعتراف بها من الدولة الوهمية، سواء من خلال المشاركة في الانتخابات النيابية، أو في الحكومة السابقة، أو في مؤتمر الدوحة والاتفاق فيه على دور المقاومة في الحكومة المقبلة، أو في تأليف البيان الوزاري، أو في مناقشة ذلك البيان في مجلس النواب. ولا ندري أَستدُرجت المقاومة، في هذا، إلى الميدان الأثير لدى الساسة اللبنانيين التقليديين، أم ألقت فيه بنفسها إلقاء مع أنها تقرأ الآية الكريمة »ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة«. إن السفسطة، أولاً، والتعريض الإعلامي ثانياً، هما عدة ذلك الميدان، والمقاومة لا تستطيع ولا يليق بها أن تستعملهما؛ لكن مجرد إتاحتهما لخصومها، والاضطرار أحياناً إلى الدفاع عن نفسها بحيالهما، تبدو كالمستعمل لهما، ولو على كره. والمؤسف أنها كلما نجحت في رسم هالة مستحقة حول نفسها، كالذي لاح بعد حرب تموز، أو بعد تحرير الأسرى واسترجاع جثامين الشهداء، استدرجها خصومها إلى معركة سياسية بتينك الأداتين، وأنزلوها من دارة القمر إلى دار المقامرة؛ أي جعلوها شيئاً عادياً بعدما بدت عملاً مقدساً يدهش الغريب، ويفرح القريب. وكل همّ الخصوم أن يردد الناس ذلك المثل العامي الذي معناه »حسبنا الباشا باشا، فإذا هو مجرد رجل«. إن السعي إلى انتزاع الاعتراف وذكر مسلّمة في البيان الوزاري، هي إقرار حق الشعب والجيش والمقاومة في تحرير الأرض اللبنانية المحتلة، إقراراً يشبه قولنا: يتألف الماء من هيدروجين وأوكسجين، وذلك لقاء إقرار آخر بخضوع تلك المسلّمة، كسائر ما في البيان، لمرجعية الدولة، كل ذلك مساومة لم تكن تليق بالمقاومة، فضلاً عن أنها كسب لرئيس الحكومة وأنصاره لقاء لا شيء؛ بل لقاء اعتراف لا قيمة له أبداً؛ فمن يعترف به أكثر الشعب اللبناني، وكثير من الشعوب العربية والإسلامية، وتتفاوض معه الدول تفاوض الند مع الند، فليس في حاجة إلى اعتراف بيان وزاري به، ولا سيما في حكومة كان رئيسها ينعت بأنه رئيس حكومة غير شرعية، ويرمى بكل التهم. فكيف إذا كانت النتيجة العفوية لتلك المساومة هي فرض منطق الدولة على منطق المقاومة، أو إدخال حتى الجانب الأكثر سرية منها، وهو العمل العسكري، في كنف الدولة، ولو من طريق التأويل، فيهلل الخصوم فرحاً بذلك ويعدّونه فتحاً لهم مبيناً؟ ثم إن ذلك الاعتراف غير ذي أثر، بدليل أن البيان الوزاري للحكومة السابقة تضمن عبارات أكثر وضوحاً في شأن المقاومة، ومع ذلك ذهب رئيس الحكومة إلى قمة الخرطوم ليمنع ذكر المقاومة في البيان الختامي؛ وحين وقع العدوان الصهيوني على لبنان سنة 2006 تبرأ رئيس الحكومة نفسه من المقاومة، وسارع بعض وزرائه إلى المطالبة بنزع سلاحها قبل أن تجف دماء شهدائها، وجردت حملة إعلامية ودبلوماسية ضدها لإجبارها على ترك ذلك السلاح، ومورست بعض السفسطات الشبيهة بالاستغباء لجعلها تنزل عنه من ذات نفسها؛ ولا تزال الحملة مستمرة؛ فماذا أفاد ذكر المقاومة في البيان الوزاري؟ ومن المضحكات المبكيات مطالبتهم المقاومة بإعطاء سلاحها للجيش من أجل تقويته! والسؤال حيال هذا الطرح العبثي: هل تسمح أميركا وإسرائيل بامتلاك الدولة اللبنانية لذلك السلاح، وقد حظرت الولاياتالمتحدة التسلح على المنطقة العربية، وعقدت اتفاقاً مع لبنان بالذات يمنعه من شراء السلاح إلا من مصادرها؟ ثم من أين ستأتي الدولة اللبنانية بقطع الغيار والمدربين على السلاح المقاوم إذا سمحت لها الولايات الأميركية بالتزود به؟ هل سيكون على المقاومة أن تتكفل بذلك وتتطوع له؟ وهل سيكون عليها أن تشتري للدولة سلاحاً جديداً إذا نفِد السلاح الموجود حالياً؟ وإذا أتيح لها سلاح أكثر تطوراً فهل عليها أن تشتريه وتهديه إلى الجيش اللبناني؟ إنها ستكون إذاً صاحبة اليد العليا في الدولة لا العكس، وستسيطر على القوى المسلحة الرسمية؛ ثم هل سيطلب إليها أن تغرس في نفوس الجنود مفهومي الجهاد والشهادة اللذين لولاهما لم يكن لذلك السلاح أي قوة؟ إنها أمور لا نظن أن أصدقاء الولاياتالمتحدة في لبنان يرغبون فيها؛ ولذلك تبدو المطالبة بمنح الجيش اللبناني سلاح المقاومة مخادعة، ليس إلا، ويراد منها إعادة الحصار المفروض على السلاح بعدما كسرته المقاومة، والعودة للمطالبة بالحياد اللبناني، والاستسلام للهيمنة الإسرائيلية، والتمهيد للصلح مع العدو، هذا إذا لم تُفتح السجون التي وعدت بها أميركا لحبس قيادات المقاومة وأنصارها. ومن ناحية أخرى، فإن دخول المقاومة في العمل السياسي العلني حملها على عقد اتفاقات سياسية مع أطراف، بعضهم صادق في محالفتها، وبعضهم ملتق معها لمصلحة ظرفية يخشى أن تتحول إلى عداوة بمجرد تبدل الظروف. وهذا جعلها تتغاضى عن مواقف عنصرية وطائفية لبعض الأطراف، وربما حملها على تأويل تلك المواقف بما يجبّ التهمَ عنهم، وهو أمر لا يقنع أنصار المقاومة فكيف بأعدائها؛ وذخيرة المقاومة الصدق، ومثل ذلك السلوك يهز الثقة بها، ويشعر أنها بدأت تنزلق نحو الأساليب السياسية اللبنانية التقليدية، وهو أخطر من أي حرب عليها. مهما يكن من أمر، فإن ذلك السلوك أصبح حقيقة يصعب إلغاؤها، نافعة كانت أم ضارة، لكن قد يسهل استدراكها بأقل الخسائر، ونرجو أن يكون تخفيف الحضور الحزبي للمقاومة في الحكومة اللبنانية الحالية، وإيعازها إلى نوابها في المجلس النيابي بعدم التصدي لاستفزازات الخصوم، عند مناقشة البيان الوزاري، إلا بقدر معتدل، شعوراً بضرورة تبديل المنهج. إلا أن خطوات أوسع يجب أن تسار، وأهمها عدم السكوت على الخطاب الطائفي والعنصري القائم اليوم في لبنان، أو عدم الدفاع عن أصحابه على الأقل؛ ومن ذلك الخطاب مطالبة بعضهم بتهجير الفلسطينيين من لبنان، والإصرار على ما يسمى إعادة الجنسية إلى مهاجرين لبنانيين مزعومين، ومنح المهاجرين حق المشاركة في الانتخابات اللبنانية، وهم في الخارج، مع أن انتخابات الداخل أكثرها مريب، فكيف تُؤْمن انتخابات الخارج؟ وسوى ذلك مما تضيق عنه هذه العجالة. قد يقال: إن مجرد تصريح الأمين العام لحزب الله بأن الجيش خط أحمر ومخيم النهر البارد خط أحمر أقام الدنيا على الحزب، فكيف إذا خاض الحزب في أمور خلافية أخرى؟ والحقيقة أنه ربما كان من المآخذ على الحزب أنه تراجع أمام الحملة المفتعلة التي ثارت عليه وقت معركة البارد، ولو مضى في الدفاع عن موقفه بحزم، متحالفاً مع الوطنيين الشرفاء، فربّما جنّب لبنان ثلاثة أمور: الأول هو التهديم المنهجي المريب للمخيم وتهجير سكانه وإبقاؤهم في العراء أو في مخيم آخر، بذريعة لجوء منظمة فتح الإسلام إليه؛ ولو كان لجوء المنظمات الإرهابية إلى مكان ما مسوّغاً لتهديم أبنيته كلها، لاقتضى الأمر محو مناطق متعددة في لبنان من الوجود؛ ويخشى أن يكون ذلك فاتحة لقصف سائر المخيمات؛ والثاني هو شبهة السكوت عمّا لا يتصل بالجنوب والضاحية وامتداداتهما الديموغرافية في البقاع وغيره؛ والثالث والأهم هو حرب بيروت. لقد أريد للنهر البارد أن يكون الثور الأبيض، وأن يوحي بفرز أو بحياد مذهبي، فكانت محاولة أكل الثور الأسود في الضاحية، ثم أوغل في المحاولة من خلال القرارين الحكوميين المشهورين، وما تلاهما من معارك بيروت التي أريد لها تجسيد الفرز المذهبي، والقضاء على الثور الأسود من خلاله، ثم في توسع الحرب نحو الجبل والبقاع وطرابلس؛ ولو نجحت تلك الخطة، فلعل حروب المخيمات كانت ستلي ذلك فوراً. وهذا يرتب على المقاومة، من باب الوقاية، أن تقلص حضورها السياسيّ المباشر، وأن تتجنب في سلوكها أي معنى من المعاني السياسية اللبنانية التقليدية، وأن تجتنب كيل المدح لأي سياسيّ تقليدي أو طائفي أو عنصريّ، أو الإيحاء بالدفاع عنه، وأن تكون مواقفها من القضايا المبدئية صريحة وحازمة وشجاعة، بصرف النظر عن علاقاتها السياسية وتحالفاتها؛ لأن الذين يؤيدونها لا يهتمون لحلفائها، بل ينظرون إلى صورتها بذاتها، ويحرصون على أن تظل بمعزل عن الشبهات، وبمنأى عن السهام، وبمنجى من المؤامرات والكمائن. عن صحيفة السفير اللبنانية 19/8/2008