معركة البارد جريمة في حق الإنسانية مصطفى الجوزو إن العنصرية بنت الطائفية. ذلك لأن أبناء كل ملة، بل وكل مذهب، يعتقدون أنهم شعب الله المختار، على اختلاف طرقهم في التعبير؛ ولم يحتكر اليهود وحدهم هذه الدعوى. وما داموا كذلك فإن الأرض وحكمها حق لهم دون غيرهم من الناس، يتمتعون بخيراتهما، ويسخّرون لخدمتهم سائر البشر، من غير أن يكونوا مضطرين للاعتراف بإنسانية هؤلاء، ومن غير أن يردعهم شي ء عن الزعم بأن الآخرين حيوانات. ومن العبارات العفوية في وصف أصحاب الملل الأخرى، ولا سيما المنافسة على المِلك أو المُلك: خنازير. بل قد يتصور العنصريون أن لأبناء الملل الأخرى أذناباً وقروناً، ولا يتورّعون أحياناً عن البحث عنها. والحروب الدينية والطائفية هي بصورة من الصور نزاع بين شعوب أو طوائف يعتقد كل منها أنه مختار، وأن الآخرين ينتحلون تلك الصفة انتحالاً، ويحاولون انتزاع حق إلهي ليس لهم؛ وكيف يكون للبهائم مثل ذلك الحق وقد أحل الإله قتلها؟ من هنا فكرة أن الله أعطى الشعب المختار حق قتل الآخرين؛ فالمختارون ليسوا أبرياء من كل جريمة فحسب، ولو ارتكبوا جرائم في حق الإنسانية، بل هم يعدّون قتل الآخرين عملاً صالحاً يجزون عليه عند إلههم (وإله الأمة المختارة غير إله الآخرين). جريمة عنصرية في هذا الإطار تدخل المشكلة الصهيونية العربية، وتكاد تدخل فيه المشكلة اللبنانية الداخلية كلها، وفيه تدخل مشكلة الفلسطينيين في لبنان، ولا سيما في مخيم نهر البارد؛ فالذي يحدث في ذلك المخيم أمر خطير، وهو جريمة عنصرية بامتياز، أياً تكن المزاعم والشعارات الوطنية المسوِّغة له، ومهما كانت قوة الأهازيج الشوفينية، وطاقة مغاسل الأدمغة الإعلامية وغير الإعلامية، وجمال المفاخرة بمحاربة الإرهاب. إن تهجير أهل المخيم، وقتل بعضهم في مُهاجَرهم القسري الجديد، وتدمير المخيم كله منهجياً على من بقي من سكانه، ووعد وزير الدفاع بقتل عشرة بكل شهيد من الجيش، واتضاح الأمر في أن تدمير المخيم سيستتبع نزع سلاح أهله هو وسائر المخيمات، وإخضاعهم جميعاً للسلطة الكلية للدولة اللبنانية، وفق ما صرح به سفير لبناني سابق موكل اليوم بشؤون الفلسطينيين في لبنان، وكذلك ما صرح به حزب طائفي شوفيني لبناني بلا خجل؛ كل ذلك يؤكد أن تلك جريمة في حق الإنسانية يتحمل الساسة اللبنانيون مسؤوليتها، والمسؤولية عن استشهاد مئة وسبعة وعشرين أو أكثر، وجرح نحو أربعمئة من أفراد الجيش دُفعوا إلى معركة ليس من اتفاق وطني عام على هدفها الحقيقي؛ ويستدعي الأمر كذلك إنشاء محكمة دولية لمحاسبة المسؤولين عن المجزرة. والمشكلة أن الفلسطينيين في لبنان يكادون يفقدون كل حماية، حتى من السلطة الفلسطينية نفسها؛ فالمعروف تاريخياً أن السنة هم سند الفلسطينيين في لبنان، وأن العمل على تهجير هؤلاء بحجة منع التوطين والدفاع عن حق العودة سببه الخوف من أن يصبح السنة هم الطائفة اللبنانية الكبرى لا منازعة؛ وقد استطاعت السياسة الأميركية الجديدة في العراق ولبنان أن تشغل أكثرية أهل السنة برُهاب الشيعة عن كل شي ء، وأن تجعل بعضهم حلفاء لأعداء الفلسطينيين في لبنان. وكان من أقوى المدافعين عن الفلسطينيين وقضيتهم علماء الدين السنة، وقد أصبح رؤساؤهم اليوم مشغولين بالدفاع عن الحكومة ورئيسها، وعن المحكمة الدولية، وبالهجوم على بعض الأنظمة العربية وعلى الأحزاب الشيعية اللبنانية، وهم لا يكادون يجرؤون على الدفاع عن الفلسطينيين خوفاً من إغضاب الموالاة. والأحزاب الشيعية قسمان: قسم يكره الفلسطينيين ويخاف أن يؤدوا إلى الغلبة الديموغرافية للسنة، فهو ممن يشجع على محاربتهم؛ وقسم صادق مع نفسه وحريص على الفلسطينيين وحقوقهم لكن لعله خائف من تهمة التدخل في شؤون الطائفة الأخرى، ومن غضب بعض حلفائه المسيحيين المساهمين في الحملة العنصرية على الفلسطينيين؛ وهو مع ذلك لم يسكت، وأعني به حزب الله، فقد أعلن أمينه العام بلباقة، في كلمة تكاد تضارع عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وتستحق أن تدرس في المؤسسات التربوية، أن مخيم النهر البارد خط أحمر والجيش خط أحمر أيضاً، مطالباً بالتحقيق قبل إصدار الأحكام، رافضاً أن يكون رجل الأمن هو القاضي والجلاد في وقت معاً؛ لكن «السيد» لم يجد إلى جانبه من يسانده، بل فتحت الأبواق العنصرية الشوفينية عليه، تتهمه بالمساواة بين المجرم والضحية، مكذبة بذلك شعارات الحكومة والموالاة من غير أن تشعر، لأنها جعلت أهل المخيم هم المجرمين وليس جماعة فتح الإسلام، وكشفت النية الحقيقية وهي ضرب المخيم وليس ملاحقة تلك الجماعة. وأما السلطة والمنظمات الفلسطينية فمشتتة ضائعة، وقد لا يتورع بعضها عن محاربة بعضٍ إرضاء لمطامحه السياسية الأنانية، أو تنفيذاً لمطالب أميركية أو صهيونية، أو في أحسن الأحوال محاولة لكسب ود السلطة اللبنانية بمجافاة فتح الإسلام وتبرئة النفس بذلك من تهمة الإرهاب، ورغبة في الحفاظ على فلسطينيي نهر البارد وسائر المخيمات، على جهل مما يرسم لهم، على الأرجح. وأما الدول العربية والإسلامية فمشغولة بهمومها، ويغريها شعار محاربة الإرهاب؛ وقد عانى بعضها الإرهاب عناء شديداً، وكان في فتح الإسلام أفراد من بلدانها. وإذا كان أهل لبنان لا يدافعون عن إخوانهم وأقاربهم الفلسطينيين، فكيف تتبرع الدول الأخرى لذلك، وبعضها ضالع في قتل الفلسطينيين واسترضاء دولة الاغتصاب في الأرض المقدسة، ودولة الاحتلال في العراق؟ لعل هذا كله ما أطمع أصحاب المشاريع العنصرية الطائفية من اللبنانيين في افتعال معركة نهر البارد، وشجع بعض الدول الكبرى على دفع السلطة إلى شن تلك المعركة، ولا سيما أنها تخدم أهدافاً أخرى بجعل الحجر يصيب غير عصفور. إن تهديم مخيم نهر البارد يبدو خطوة متقدمة في العمل على تصفية القضية الفلسطينية، تتكامل مع حصار غزة، وحصار الفلسطينيين على الحدود المصرية حتى توفي منهم عدد كبير، وملاحقة كل من يمد المقاومة الفلسطينية بالعون باعتباره مسانداً للإرهاب... الخ. رزمة أسئلة إن هناك رزمة من علامات الاستفهام المحرجة، وبعضها ليس بكراً، بل كثير منها مدار أحاديث المواطنين والمفكرين، وهي تستتبع أسئلة أخرى لا نهاية لها. ولا ضرورة لتكرار الأسئلة البديهية منها المتصلة بتلك الزيارة التي قام بها ديفيد ولش إلى لبنان (وإن كان من البديهي التساؤل عما إذا كان ولش يهودياً صهيونياً) وبمطالبته بتنفيذ القرار .1559 كما لا ضرورة للاستنتاج أن تنفيذ القرار 1559 هو الثمن المفروض على الحكومة اللبنانية دفعه لإقرار المحكمة الدولية بمقتضى الفصل السابع، وأن الثور الأبيض هو من المقبلات على المائدة التي يفترض أن يؤكل عليها الثور الأسود؛ ولا لاتهام العماد النائب الطامح إلى رئاسة الجمهورية بالعودة إلى النبرة العنصرية بمجرد لقائه لولش «ويا كنيسة الربّ...»، ولا الافتراض أنه أصبح المرشح الأوفر حظاً للرئاسة لأنه الأقدر على مواجهة ما تسميه الولاياتالمتحدة مبليشيات إرهابية. لا ضرورة لكل ذلك على وضوحه، لأنه ليس من دليل قاطع عليه، لكن يحسن طرح أسئلة أخرى هي: 1 أليس من حق كل مواطن أن يعترض على محاولة تبديل عقيدة الجيش وتحويله من حام للحدود ونصير للمقاومة، إلى مقاتل في حروب داخلية، من أجل غايات شوفينية، حتى لا نقول من أجل الثأر لدولة المصارف، وردع كل من يفكر بالتعرض لها. 2 هل تجوز العودة إلى أساليب الخمسينيات والستينيات التي برز فيها ضرب من التقديس المتكلف للجيش، لأنه كان يومئذ حامي المؤسسة الطائفية بامتياز، فنكرر اليوم، بأسلوب قبلي، تمجيده والدعوة الكاذبة، في أكثر الأوقات، إلى الالتفاف حوله. إن الجيش مؤسسة كسائر مؤسسات الدولة، وهو يخضع للقرار السياسي في مجلس الوزراء عامة، وفي وزارة الدفاع خاصة؛ والتلطي خلفه هو فرار من مسؤولية زجّه في حرب غير مقنعة. 3 وبالتالي هل يجوز الارتجال في موضوع كموضوع الحرب، والتضحية بهذا القدر من الجنود والبشر والحجر، وتهجير آلاف الفلسطينيين، وتجميد الحركة الاقتصادية والسياحية والاصطيافية، والإضرار بها ضرراً يفوق ما أصابت الاقتصاد اللبناني في حرب تموز، على ما ذكرته جريدة «السفير» اللبنانية؟ وهل يمكن أن يقتنع أحد بأن هذه التضحيات الرهيبة بذلت في سبيل القبض على عصابة؟ 4 أوليس على المصرف الذي تخوض الحكومة معركة طاحنة من أجل عيون دولاراته الخضر، أن يدفع نفقات المعركة ويعوض الخسائر التي نجمت عنها؟ 5 ولماذا بدلت الدولة طريقتها الحكيمة في معالجة من تعتبرهم خارجين على القانون من أهل المخيمات الفلسطينية، الذين كانت تحاصرهم في مخيماتهم وتقبض على من تستطيع القبض عليه منهم خارجها، ريثما تحل مشكلة تلك المخيمات، فعمدت اليوم إلى تهديم مخيم نهر البارد وتهجير سكانه، مع أن المطلوبين من غير أهله، ومع أنها زعمت القبض على عدد منهم خارجه؟ أمِنْ تواطؤ واختراع؟ 1 إن أكاذيب راعيتنا الدولة الأميركية الكبرى، وأكاذيب الساسة وبعض الأمنيين في لبنان، وسفسطاتهم المملة فوق أمعاء الناس ورئاتهم، لا تسمح إلا بالتساؤل عن الطريقة التي اقتُحمت بها مضاجع الجنود اللبنانيين في نهر البارد، وبالشكّ في الحجج التي سيقت في هذه الشأن: المباغتة أو الغدر أو غير ذلك. إن مخيماً كشفياً يصعب اختراقه بهذه الطريقة، فكيف بجيش مشهود له بالكفاية وحسن التظيم؟ كثيرون يشتمّون رائحة تواطؤ ما، ويشكّون في أن يكون لبقايا الميليشيات الطائفية ولبعض الأجهزة الأمنية ولبعض المرتبطين بالأجهزة الاستخبارية العدوة، ضلع في مباغتة الجنود، وفي اقتناص العائدين إلى منازلهم، وذلك من أجل تحريض الناس على المخيمات، وتسويغ تهديمها. 2 إن تلك الأطنان من الأكاذيب والخزعبلات السياسية، وإن كون القاعدة وما سمي إرهاباً اختراعاً أميركياً بامتياز، كل ذلك يجعل المواطن يشك في حقيقة «فتح الإسلام» نفسها: هل هي موجودة حقاً، أم هي اختراع «بروأميركي»؟ وهل الذين دُهمت منازلهم في طرابلس ودُهمت كهوفهم في دده وغيرها ينتمون إليها فعلاً؟ ولماذا قتل جميع من كان في مبنى الشهال، فلم يترك منهم حتى واحد للتحقيق معه ولمعرفة حقيقة أمره؟ أم المطلوب محو جميع البصمات، حتى إذا كانت القصة هي قصة راجح، ظهرت كأنها حقيقة؟ 3 إن القضية تبدو استكمالاً لقصة مخازن الأسلحة التي زعم اكتشافها سابقاً في مناطق طائفية معينة، وقرب بعض المخيمات، وكثير منها يعود إلى زمن الطوفان. على حين أن السلاح اكتشف في منطقة محظية أخرى، واكتشف بعضه مع نائب سابق فارس، ومع عصابات مدنية ? في الظاهر على الأقل - هاجمت الفلسطينيين في مخيم البداوي، ولم تحرك الدولة ساكناً، ولم يقحم الجيش، والحمد لله، في معركة مفتعلة. إن تلك الحماسة المفاجئة في الدفاع عن الجيش، واعتبار المطالبة بوقف القصف على المخيم وقتل أهله وتجويعهم مساواةً بين المجرم والضحية، حرف للأمور عن مواضعها؛ لأن المسؤول ليس الجيش بل الساسة؛ وهي معادلة عنصرية تقوم على أن ثمة بريئاً دائماً، ومجرماً دائماً، وذلك من غير أي محاكمة. إن العصمة التي يعتقدها المؤمنون في الأنبياء لا يصلح إسقاطها على مؤسسات الدولة، ومنها الجيش، في نظام يفترض أنه ديموقراطي. تواقت مريب 4 أوليس لافتاً توقيت المعركة، بوقوعها قبيل مناقشة مشروع المحكمة الدولية في مجلس الأمن، بحيث بدا كأن الحكومة اللبنانية تريد أن تقول للعالم، وبخاصة للولايات المتحدة وحلفائها، إنها تحارب الإرهاب، من أجل أن تحوز العطف الدولي؟ وهذا ما حصل فعلاً. إنه ليس دفاعاً عن »فتح الإسلام«، لكنه استنتاج يتصل بتوقيت المعركة. 5 أولم يشعر كثير من الناس أن ثمة قراراً بإطالة المعركة في نهر البارد، ولو بإرسال الذخائر قطرة قطرة إلى الجيش وحبذا لو أرسلت الذخائر وقت العدوان الصهيوني على لبنان - ريثما تنقضي المهلة التي منحها مجلس الأمن للبنان من أجل إقرار المحكمة، فلا تُترك فسحة للاعتراض على قرار مجلس الأمن، لا في الإعلام ولا في الشارع؟ ولعلهم يريدون اليوم الاستمرار في المعركة، على النمط نفسه، لتمر الانتخابات الفرعية بغير موافقة رئيس الجمهورية، ثم ليجري انتحاب رئيس للجمهورية جديد بطريقة غير دستورية. والمخيف أن انتخاب رئيس الجمهورية قد يقتضي معركة أعنف لا تترك لأحد أن يتكلم أو يعترض. أوانٍ مستطرقة وأسئلة وأسئلة، كالأواني المستطرقة، تتصل بحقوق الفلسطينيين المدنية، وبمحاولة تهجيرهم من لبنان، وباعتبارهم »غرباء«، وبالعمل على إعادة الجنسية لمهاجرين لبنانيين مزعومين، أكثرهم لا جذور له في لبنان ولا شي ء يربطه به وبثقافته، فضلاً عن جهله للغة العربية؛ وتتصل باستغلال الفلسطينيين في الحروب الطائفية العنصرية اللبنانية، وبتوافق محاولة تهجيرهم مع الحملة العنصرية الخارجية التي تعمل على إخراجهم من البلاد المجاورة للأرض المحتلة، وبالقول إن من أهداف العدوان الصهيوني على الجنوب والضاحية الجنوبية، في تموز الماضي، هو طرد الطائفتين اللبنانيتين الكبريين من لبنان. إنها أسئلة تحتاج إلى إجابات، ونخشى ألاّ يجيب عنها أحد، أو أن يجيب، من يجيب، على طريقة كولن باول في الأممالمتحدة قبل غزو العراق، ليس إلا؛ وبذلك تزيد الريبة ويتضاءل الاطمئنان، وتلح المطالبة بمحاكمة الساسة اللبنانيين في محكمة دولية. عن صحيفة السفير اللبنانية 28/7/2007