تفكير آخر في المسألة التركية! عبد المنعم سعيد سوف يكون أسوأ ما يقدم للتجربة السياسية التركية التي أدت إلى وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم الحكومة والرئاسة في تركيا أن تتنازعها الادعاءات والدعايات بين الفرق السياسية العربية. فيقف الفريق الإسلامي متباهيا بنجاح آخر للإسلاميين في معقل من معاقل العلمانية، معتبرا ذلك خطوة على طريق طويل لسيطرة الإسلاميين على الحكم باعتبارهم المعبر «الحقيقي» عن هوية الأمة. ويقف الفريق الليبرالي والديمقراطي متباهيا بأن الجماعة الإسلامية في النهاية لم تجد أمامها للنجاح إلا في نظام يقوم على تداول السلطة، واقتصاد السوق، والعلاقة الوثيقة مع الغرب سواء من خلال حلف الأطلنطي أو الجماعة الأوروبية. وبين هذا وذاك من الفرق المتباهية توجد جماعات وفرق أخرى متشككة، منها الإسلامي الذي يرى في الحزب التركي تساهلا وتراجعا مع العلمانية بما لا ينبغي التساهل أو التراجع فيه. ومنها الليبرالي الذي يرى ما جرى مجرد زحف وهجوم آخر من التيارات الإسلامية التي لا يوجد فيها غير التشدد على آخر قلاع المعاصرة والحداثة في الدول الإسلامية؛ ومنها حتى القومي الذي يرى في وصول حزب «إسلامي» إلى السلطة في تركيا مجرد غطاء ديني جديد لتبعية العالم الإسلامي للولايات المتحدة وحلف الأطلنطي. ولكن القضية ليست المباهاة أو التشكك، وإنما الأهم من هذا وذاك أن يتم توقيع ما حدث في تركيا ضمن التطور التاريخي العام للمجتمعات العربية والإسلامية. فهذه المجتمعات رغم خصوصيتها الثقافية والحضارية لا تختلف كثيرا عن بقية مجتمعات الأرض التي مرت بنفس مراحل التطور التي مرت بها. فمع مولد الدولة القومية أو الوطنية الحديثة في أوروبا وآسيا والأمريكتين تولد داخلها ما يشابه ما تولد لدينا من تيارات قومية ودينية وليبرالية، وفي داخل كل منها كان يوجد بمعايير الأمن والسعادة والتنمية ما يجذب الجماعة إلى الخلف، وفيها ما يدفعها إلى الأمام. فقد كان التيار الديني هو الأول بحكم وجوده في مجتمعات ما قبل الحداثة، ولحقب طويلة كان الدين بأشكال مختلفة ومتنوعة هو مصدر الشرعية السياسية، والأهم من ذلك فإنه كان مصدر السلام النفسي والأخلاقي للجماعات البشرية مهما كان الدين الذي تعتنقه. ولكن على الجانب الآخر، فإن التيار الديني ممتلئ بعناصر التعصب والتشدد خاصة مع انتشار الغلو والمغالاة، والشعور بالتفوق الناجم من كلمات مقدسة ومطلقة. وفي التجربة الأوروبية والأمريكية رغم كل ما جرى من تطور مادي ظل دور الدين والكنيسة فيها حاضرا ومؤثرا في السياسة حتى الوقت الراهن، وكان الدور متقدما أحيانا كما جرى في بولندا، كما كان رجعيا كما حدث في إسبانيا. وحينما عصفت القومية وتيارها السياسي بالمجتمعات المختلفة وحولتها إلى دول من نوع جديد كانت هي التي أقامت الأسواق الوطنية التي خلقت طلبا كافيا أحضر الثورة الصناعية التي خلقت الحضر وغيرت الريف، وفي النهاية كانت هي التي وضعت «حق تقرير المصير» موضع التطبيق. ولكن التيار القومي الذي ألهب الإحساس بالجغرافيا والتاريخ والقيم واللغات والثقافات المشتركة، كان هو ذاته الذي أقام بيروقراطيات مستبدة وشمولية عاتية، ومن بعدها ذهب إلى فاشيات متنوعة جمعت ما بين الإحساس بالتفوق القومي والعرقي أحيانا حتى كلف العالم حربين عالميتين انتشرت بعدهما الكراهية ومعاداة الأجناس السامية وغيرها على النطاق العالمي. ولم يكن التيار الليبرالي أسعد حالا، فمن ناحية كان هو صنو الحرية والقانون والعدالة و«القيم الإنسانية» المجردة بين بني الإنسان مهما كان الدين أو الجنس أو العقيدة. وبشكل ما بدا هذا التيار هو الضابط على الشطط والتعسف في استخدام السلطة والقوة بشكل عام، ومنه خرجت أفكار الفصل بين السلطات والتوازن بينها وتداول السلطة والتعددية الحزبية والمجتمع المدني و«حقوق الإنسان» الأساسية وفوق ذلك سلسلة من الثورات العلمية والتكنولوجية التي لم يكن لها أن تولد دون ارتفاع سقف الحرية إلى علا لم يصل لها من قبل. ولكن بقدر الطاقات التي ولدتها الفكرة الليبرالية في تاريخ العالم فإن آفاق الحرية والاختيار التي أشارت لها أصبحت مرعبة لمجتمعات لا تزال الأسرة فيها هي أساس المجتمع. وفي أوقات كثيرة بدا للدولة المعاصرة أن الحرية تتلاعب بحواف الفوضى الأخلاقية والفكرية؛ ومع اقتراب العلم من آفاق جديدة للعب بالجينات والتعامل مع قضايا الحياة والموت فإن التساؤل الإنساني بدا دائما ملحا حول المدى الذي تصل إليه الحريات الفردية، وعما إذا كانت الضمائر والأخلاق يمكن الحكم عليها أو الاحتكام إليها. وبين هذه التيارات الثلاث المتنافسة بما فيها من اعتدال وشطط جرى الصراع السياسى في كل دول العالم تقريبا، وحينما انتهت الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان واستراليا قد وصلت إلى نقطة من التوازن الذي يتخلص فيه كل تيار من الشطط والتطرف الذي يحتويه. وعندما انتهت الحرب الباردة دخلت دول ومجتمعات أخرى إلى لحظة التوازن هذه بحيث بات معترفا به أن المجتمع السياسي لا يجري مساره إلا في إطار الدولة القومية أو الوطنية، التي تنظم أمورها من خلال النظام الديمقراطي الذي لا يضمن فقط تداول السلطة وحكم الأغلبية، وإنما يضمن توازنات وأثقالا مضادة للتعامل مع الحريات العامة والشخصية التي يلعب فيها الدين والتيارات الدينية دور الضابط الأخلاقي ووازع الضمير الذي يعطى للقانون الدنيوي رهبة كافية لحماية الإنسان من نفسه الأمارة بالسوء والفاشية والتطرف. نقطة التوازن هذه تخلقت عندما عرفت الأديان والحركات الدينية أن العالم متعدد الأعراق والأديان والمذاهب والتي لا تخرج كلها عما جاء في الوصايا العشر المعروفة، ومن ثم أصبحت لا تمثل دينا ومذهبا بعينه بقدر ما أصبحت ممثلة لحزمة من الأخلاق والمقاصد الحميدة. وكانت الأحزاب الديمقراطية المسيحية فيها من الدين ما يكفي لكي يحافظ على التقاليد والأخلاق العامة، وفيها من السياسة ما يكفي لكي تعرف أن القرار في النهاية للبشر الأحرار الذين يعرفون آفاق المصالح وحدود الأخلاق. وكانت تلك النقطة هي التي عرفتها الأحزاب القومية، ففي النهاية فإنه لا توجد أمم مميزة عن غيرها إلا بالعمل والإبداع، وما قيل عن القوميات التتيونية والطورانية كان محض خرافات، ويكفي القومية في النهاية أن تمثل رابطة للتميز والأسواق والحدود المحمية، وعندما يضمن كل ذلك فإنها تصبح ألوانا وهتافات في مباريات كرة القدم. وعرفت الليبرالية هذه النقطة عندما عرفت الحدود بينها وبيت الفوضى، وعرفت المواءمة بينها وبين المسؤولية، وسلمت في النهاية للمؤسسات فيما عدا الحقوق الأساسية بإدارة الحريات العامة التي مستها القومية، وعرفت الدين. وما حدث في تركيا لم يكن أكثر أو أقل من عملية الوصول إلى هذه النقطة، وما قبلها كان شططا علمانيا أحيانا ودينيا أحيانا أخرى وقوميا في كل الأوقات. فالعلمانية التي آمن بها أردوغان وغول ورفاقهما كانت علمانية فصل الدين عن الدولة وليس معاداة الدولة للدين، والقومية التي يعرفونها هي تلك التي تمزج مصالح الأمن بحلف الأطلنطي والسوق بالجماعة الأوروبية، وكل ذلك تحميه هوية وذاتية غير متعصبة وتفتح الأبواب للاقتراب من أديان ودول وقوميات وأمم تشارك تركيا نفس اللحظة التاريخية من التوازن. فلماذا حدث ذلك في تركيا الآن، وليس بالأمس؟ وهل التجربة قابلة للتكرار في دول عربية وإسلامية؟ وإذا كان ذلك ممكنا فما هي الشروط اللازمة لهذا التحول؟ وعندما تكون الأسئلة كثيرة فإنها تحتاج لإجابات أكثر! عن صحيفة الشرق الاوسط 12/9/2007