مقارنة مغلوطة بين فيتنام والعراق محمد الخولي مراقبو المشهد السياسي الأميركي الراهن، سواء في العاصمة الرسمية واشنطن، أو في العاصمة الدولية نيويورك (حيث نكتب هذه السطور) رفعوا الحواجب دهشة واستغرابا عندما سمعوا أحدث تصريحات الرئيس الأميركي بوش التي قارن فيها دور أميركا الراهن في العراق بدور أميركا السابق في فيتنام.
في نيويورك تايمز (عدد 27 أغسطس) يكتب ستيفن لي مايرز تحليلا سياسيا يذهب فيه إلى أن استراتيجية السيد بوش في العراق أصبحت تعاني مما يصفه المحلل الأميركي بأنه «أزمة مصداقية» لدى الرأي العام في الولاياتالمتحدة، وإن كان يزيد من وطأة هذه الأزمة أن ساكن البيت الأبيض يواجهها بنفس الأسلوب الذي واجه به أزماته السابقة وهو: شن حملة شعواء بغير هوادة لإقناع الناس بأن يروا الأشياء كما يراها السيد بوش شخصيا.
يتطرق الكاتب الأميركي إلى تصريحات الرئيس بوش في منتصف أغسطس الماضي حين قطع إجازته السنوية في منتجع كرافورد بولاية تكساس ليلقى خطابا في جمع من قدامى المحاربين ويعقد فيه المقارنة التي جلبت على الرئاسة الأميركية انتقادات مريرة وصلت إلى حدود الهجوم والرفض من جانب قطاعات شتى من جماهير الأميركيين.
ولا يدري أحد ما الذي دفع خبراء الميديا ودهاقنة العلاقات العامة في البيت الأبيض إلى أن يجروا هذه المقارنة الغريبة على لسان رئيس البلاد؟
لقد ظل وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد يرفض، أو فلنقل يتجاهل، العودة إلى استخدام لفظة «مستنقع» (كواجماير بالانجليزية - بالجيم القاهرية غير المعطشة) لوصف الورطة الأميركية الراهنة في أرض العراق.
ورغم سلبيات السيد رامسفيلد، سواء من حيث توريط بلاده والإدارة الحاكمة التي انتمى إليها - أو من حيث بلايين الدولارات التي أنفقت في عملية «الصدمة والرعب» التي استهدفت العراق .
وما ترتب عليها من تآكل سمعة واشنطن الدولية وخسائر أرواح العسكريين النظاميين التي بدأت تقترب من رقم الأربعة آلاف (ناهيك بخسائر الأرواح والإصابات التي ما برحت تقع بين صفوف المقاتلين غير النظاميين الذين يصدق عليهم وصف «المتعاقد» كناية عن «المرتزقة») رغم هذا كله، فقد كان رامسفيلد يدعي أنه لا يعرف وسط الظروف الأخيرة كلمة «مستنقع»®. بل ولم يسمع بها: لأن الرجل كان يعرف كم ارتبط هذا اللفظ بقضية ومأساة فيتنام وكان المطلوب.
ولعله لا يزال مطلوبا، عدم التعرض لمشاركة أمريكا في حرب فيتنام لا من قريب ولا من بعيد.. باعتبار أن التعرض لها من جديد يستدعي إلى العقل الجمعي الأميركي وإلى الذاكرة القومية والوجدان العام لجماهير الولاياتالمتحدة ذكريات غاية في السلبية..
ليس أقلها صور حشود الناس من كل الأجيال التي كانت تملأ شوارع المدن الكبرى في أميركا وفي عواصم شتى من العالم تندد بواشنطن خلال الستينات، وتنتصر للمقاومة الوطنية الفيتنامية، وما زالت ذاكرة الأجيال المخضرمة التي عاصرت تلك الحرب تعي بالذات صورتين ماثلتين في الأذهان على مدى السنوات الثلاثين إلى الأربعين الماضية:
أولاهما صورة مواطن انجليزي مسّن نحيف القوام، استرسل شعره الأبيض فوق جبين مغضن تحت السنين.. ورغم ملامح النجابة والوقار التي كانت تلوح من هيئة الرجل فقد طالع العالم صورته وقتها جالسا على رصيف الشارع أو قارعة الطريق في لندن..
ولم يكن هذا العجوز الأشيب سوى واحد من أكبر عقول العصر وهو الفيلسوف البريطاني «برنزاند رسل» الحاصل على جائزة نوبل. ورغم أنه كان أيامها قد نيف على التسعين فقد كان يتقدم المظاهرات الشعبية العارمة التي عارضت حرب أميركا في فيتنام.
الصورة الباقية الثانية هي التي عمدت إلى نشرها معظم الصحف الأميركية المحترمة غداة تصريحات ومقارنات الرئيس بوش الأخيرة..
وهي صورة الهليوكوبتر التي ارتفعت عموديا من فوق سطح السفارة الأميركية في سايجون تحمل آخر من ولّى الأدبار من مسؤولي السفارة ومعهم بعض عملائهم من أهل فيتنام.
وفي غمار موقف كان لا بد وأن يثير شعورا بالمهانة والمرارة لدى جماهير الشعب الأميركي. وكم كان يولد شعورا بالمرارة إلى حد الغضب إزاء من زجوا بمصالح أميركا وسمعتها كقوة عالمية لها مكانتها الدولية في غياهب مستنقعات الأدغال الموحلة في جنوب شرقي آسيا.
ولقد شاء كاتبو خطابات بوش أن يجروا على لسانه القول بأن انسحاب أميركا من فيتنام كان خطأ أفضى إلى مزيد من العنف وإراقة الدم.. وهو أمر يصدق في رأي الرئيس الأميركي على احتمالات تطور الأوضاع في أرض العراق.
ومن الطريف أن كاتبي هذا الخطاب الرئاسي أحالوا أيضا إلى ما عبارات الروائي الانجليزي الشهير جراهام جرين (1904-1991) في روايته بعنوان «الأميركي الهادئ» فجعلوا السيد بوش يردد هذه العبارات التي يصف فيها جرين شخصية الأميركي قائلا: «لم أصادف قط إنسانا يصدر باستمرار عن دوافع أفضل بكثير من المشاكل التي يتسبب هو شخصيا في وقعها».
وهنا يعلن الرئيس بوش منتقدا الروائي الانجليزي ورافضا تصوير الإنسان الأميركي بأنه ساذج بقدر ما إنه خطير في كل حال.. فقد أثارت هذه المقارنات بين العراق وفيتنام عواصف من الانتقادات سواء على صعيد قطاعات شتى من الرأي العام لدرجة أن يكتب واحد من قراء نيويورك تايمز مطالبا رئيسه بأن يتخلى عن موقعه متسائلاً هل كان يريدنا أن نبقى في فيتنام لا نغادرها بعد أن منيت بلادنا بأكثر من 58 قتيلا فضلا عن أعداد لا تحصى من الإصابات والعاهات والإعاقات وهل المطلوب أن نفعل الشيء نفسه في العراق؟
قراء آخرون كتبوا يطالبون بالانسحاب من العراق ويؤكدون أن فيتنام تحسنت أحوالها بعد انسحاب الاحتلال الأميركي.. ومنهم من عارض ما ذهب إليه الرئيس بوش في خطاب آخر محذرا فيه من هولوكوست نووي في الشرق الأوسط.
على مستوى الدوائر الفكرية والأكاديمية أثارت تصريحات الرئيس الأميركي تحليلات وتأملات في مسألة عقد المقارنات بين الأحداث التاريخية، أو كما وصفها البعض عملية التنقيح والمراجعة في تناول أحداث التاريخ بقصد استغلالها لأغراض تكييف وتسويغ سياسات الحاضر وبالأدق ولتبرير ما يشهده الواقع المعايش من أخطاء وسلبيات.
يقول السناتور «ماكس كليلاند» وهو من صفوف الديمقراطيين المعارضين: كل أساليب وحملات العلاقات العامة في الدنيا لن تنجح في تغيير الحقيقة بشأن ما حدث على أرض الواقع في فيتنام.. ولا الحقيقة التي ما زالت تتجسد على أرض الواقع في العراق.
وهذا رأي يكتسب مصداقيته من أن صاحبه كان مقاتلا في الجيش الأميركي فيتنام. على الصعيد الأكاديمي أيضا سارع البروفيسور جيفري ريكورد، أستاذ علم الاستراتيجية في كلية الطيران إلى كتابة «نقض» من 9 نقاط يرفض فيه لجوء الرئيس بوش إلى عقد مثل هذه المقارنات أو المشابهات بين الأحداث التاريخية.
وفي هذا ينقل عنه الملحق «ذي ويك أن ريفيو» الأسبوعي السياسي قوله: من الخطورة بمكان إقحام تلك المشابهات أو المقارنات والتناظرات التاريخية لتفسير أحداث وقرارات في الحاضر.
والأخطر في هذا الخصوص هو أن يتم هذا على أيدي واضعي السياسات الذين ينقصهم الإلمام الكافي بوقائع وتفسير التاريخ من جهة، فيما يملكون بين أيديهم أجندات بمعنى مصالح سياسية محددة يريدون تحقيقها من جهة أخرى. نفس الملحق السياسي الصادر بتاريخ 26/8 يحيل إلى كتاب تصادف أنه تخصص في هذا الموضوع وقد صدر عام 1992 بعنوان «مقارنات الحرب: كوريا.. ميونيخ.. ديان بيان فو وفيتنام»®.
وفي الكتاب يحذر مؤلفه يون هونغ الأستاذ بجامعة أكسفورد من عقد تلك المقارنات موضحا أن ساسة أميركا وقادتها ظلوا في عقد الستينات يدفعون باتجاه تصعيد الدور الأميركي في فيتنام..
ويعمدون إلى استدعاء إدانة سياسة التهدئة أو الترضية التي كانت أوروبا تعامل بها هتلر في عقد الثلاثينات من القرن العشرين وكأنما كانت المسألة هي تصعيد الحرب في آسيا حتى لا نفاجأ بهتلر جديد في جنوب شرقها.. وكانت النتيجة هي 15 سنة من الورطة في تلك الأصقاع الآسيوية بكل ما أفضت إليه من استنزاف على أكثر من صعيد.. ما بين البشر إلى خزانة الدولة إلى سمعة البلاد.
والمعنى في التحليل الأخير هو: أن التاريخ لا يعيد نفسه. وليس للبشر أن يتعاملوا معه إلا من منطق العبرة والفهم وليس منطق المقارنة من أجل التبرير. عن صحيفة البيان الاماراتية 6/9/2007