في «شرعية» الدولة.. الخروج من مأزق الأيديولوجيا د. سليمان الهتلان أحد الدروس المستقاة من تسيد حزب العدالة والتنمية للمشهد السياسي التركي الراهن يمكن أن يكون التالي: لم تعد «شرعية» النظام السياسي هي «الأيديولوجيا» التي تتبناها عادة الدولة وتعتقد الحكومة أنها «الحارس الأمين» لها و«القيّم» المسؤول على استمرارها والدفاع عنها.
الشرعية الحقيقية لأي دولة، لأي حكومة، لأي نظام سياسي، هي في برامج التنمية وفي التعامل المسؤول والواعي مع قضايا المواطن وهمومه ومصالحه.
«الشرعية» الحقيقية هي فيما يقدمه النظام السياسي من خدمات وبرامج اقتصادية وتعليمية لا في «النظرية» التي تتبناها الدولة ثم تورط نفسها بها وكأن بقاء الدولة رهين ببقاء تلك النظرية التي قد يتجاوزها الزمن أو قد تصبح عائقاً تنموياً أو سداً منيعاً في وجه اي محاولة جادة للحاق بالعالم المنطلق، بسرعة، نحو المستقبل.
من المبالغة القول بأن «الإسلاميين» في تركيا قد إنتصروا في المعركة السياسية التي شهدتها تركيا على مر السنوات القليلة الماضية لأن المنتصر الحقيقي هنا هو «البرنامج» الاقتصادي الشامل الذي تبناه ونفذه باقتدار حزب العدالة والتنمية. صحيح أن الحزب، في أساسه، يعتمد على مجموعة من القيم المهمة ضمنت له هذا النجاح بعد تطبيقها على الأرض كقيم العدالة والنزاهة والإصلاح والشفافية. الحقيقة أن ما يهم الناخب التركي في آخر النهار هو البرنامج الاقتصادي وليس الشعارات.
الأجندة التي طرحها الحزب والعقلية التي تدير الحزب تعكس «واقعية» و«عملية» في الرؤية والأداء. ولهذا فإن قيادات حزب العدالة والتنمية، بعد انتصاراتها السياسية، لم تتعامل مع المواطن التركي بعقلية المنتصر والمهزوم لأنها أقرت بأن الإنتصار الحقيقي هو إنتصار للديمقراطية التركية التي ضمنت لها هذا الفوز المبهر وحزبها - في الواقع - جدير به.
ما فائدة رفع شعار التنمية والعدالة إن كان التطبيق على الأرض لا يحقق لا عدالة ولا تنمية؟ ألم يٌقهر المواطن العربي طويلاً، في أكثر من مكان، تحت شعارات «الوحدة» و«تحرير الأرض» و«مواجهة العدو» ؟
إن «الأيديولوجيا» التي تتبناها بعض الأنظمة السياسية وتفرضها، عنوة، على قطاعات واسعة من مواطنيها قد تكون هي سبباً رئيسياً في مشكلات تلك الأنظمة إن لم تتسبب فعلياً في زوالها. لقد رأينا أمثلة كثيرة في عالمنا العربي تبرهن أن السياسي «المؤدلج» حد المرض يقود نظامه السياسي، وحتماً بلاده، إلى الكوارث بدلاً من ممارسة «اللعبة السياسية» بما يخدم أولاً تنمية بلاده تنمية حقيقية تسهم في قوته أمام تحديات الخارج مهما كبرت.
وأولئك الذين يخدعون النظام السياسي بمقولة أنهم - بالأيديولوجية التي يتبنونها ويورطون المؤسسة السياسية بها - هم من يعطي للدولة تلك «الشرعية» التي تضمن بقاؤها لا يخدعون فقط المؤسسة السياسية ولا يخدمون فقط مصالح خاصة آنية بإسم المحافظة على «شرعية» الدولة، ولكنهم أيضاً سيسهمون عملياً، آجلاً أم عاجلاً، في إسقاط الخيمة على رؤوس الجميع.
لنخرج الآن من ورطة الأيديولوجيا - أياً كانت - ولنتحرر من لعنة الشعارات الزائفة ونباشر عملياً في برامج تنموية حقيقية تٌعنى ببناء الإنسان أولاً وتسهم في بناء بلداننا بناءً صحيحاً على أصعدة الصحة والتعليم ومستوى المعيشة وإشراك المواطن في العملية التنموية عملياً وليس شكلياً أو لمجرد ذر الرماد في عيون المراقب الأجنبي، وحينما نفعل هذا فإننا هنا، نؤكد «شرعية» الدولة ونقوي من مكانة النظام السياسي ونعزز فعلياً وحدة أوطاننا ومجتمعاتنا.
تأمل كيف يعزف كثيرون في الدول التي تمارس ديمقراطية حقيقية عن السياسة وألاعيبها وإغراءاتها. السبب هو أن التنمية الحقيقية في تلك البلدان خلقت للناس بدائل كثيرة للعمل والتغيير والفعل، لم تعد السياسة وحدها هي البوابة للتميز والبروز او للفعل والعطاء. وأن تبني شارعاً نظيفاً أفضل، مليون مرة، من أن تتشبث ب «أيديولوجيا» قد تكون في أصلها أساساً للفرقة داخل المجتمع الواحد.
أنظر حولك لترى أن أكثر الأنظمة السياسية استقرارا وثقة في «شرعية» وجودها هي تلك التي تقدم تنمية بلدانها على شعارات الأيديولوجيا وهي تلك التي تٌعنى كثيراً بتنمية الإنسان وتتعامل مع همومه ببرامج حقيقية تسهم فعلاً في صناعة الحلول وتغيير الأحوال لما هو أفضل.
من هنا تأتي الدعوة لقراءة تجربة حزب العدالة والتنمية التركي أولوية لأولئك الذين جرجرونا بشعارات «الأيديولوجيا» - شرقية كانت أو غربية، دينية كانت أو مدنية - من هزيمة إلى هزيمة ومن نكبة إلى نكبة ومن كارثة إلى كارثة.
ومع كامل التقدير لقناعات الناس وتوجهاتهم الفكرية، الكل يجب أن يدرك بأنه مطالب بالعمل الجاد لتنفيذ بنود «برامج» تنموية حقيقية تؤسس لها الدولة ومن ثم تقرها وتكون «حارسها الأمين» وهي بهذا تؤصل لمفهوم حقيقي ل «شرعية» الدولة وبالتالي لاستمرارها قوية وصامدة حتى في وجه أعتى الرياح وأعنفها. فهل نطمح، في العالم العربي، في برامج تنموية حقيقية تعنى بالإنسان أولاً وقبل أي شيء؟
وهل تستوعب الأنظمة السياسية في عالمنا العربي أن «شرعية» وجودها الحقيقية هي في إحترامها لتعطش الإنسان العربي للعيش بأمن وكرامة وفي عملها الدؤوب للتعامل الصادق مع هموم مواطنيها على أصعدة التنمية عموماً ؟
وهل ندرك أن تنفيذ بنود الخطط التنموية، بجدية، وبعيداً عن البيروقراطية المقيتة وبأسلوب قوامه النزاهة والشفافية، سيعزز من وحدة مجتمعاتنا ويحمي «شرعية» الدولة؟ ومرة أخيرة: هل نقرأ التجربة السياسية (و التنموية) التركية الراهنة لعلنا نتعلم ما قد يسهم في إخراجنا من مأزق «الأيديولوجيا» التي قد تكون طريقنا نحو الهاوية؟ عن صحيفة البيان الاماراتية 5/9/2007