محمد عصمت سيف الدولة • الأصل فى سيادة الدول هو حقها فى ان تمارس سيادتها كاملة على كافة المستويات داخل حدودها السياسية .
ولكن الأمر فى مصر وعدد من الأقطار العربية ليس كذلك بسبب تحكم إسرائيل وجبروتها ، وانكسار الإرادات الرسمية العربية أمام رغباتها المدعومة بالضغوط الأمريكية .
• واكبر مثل على ما نقوله هو اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية المشهورة باسم كامب ديفيد والموقعة فى 26 مارس 1979 :
حيث أصرت إسرائيل فيها على التفرقة بين حدودها السياسية مع مصر وحدودها العسكرية ، فإذا كانت الحدود السياسية المصرية الفلسطينية هى الخط الواصل من رفح فى الشمال الى طابا فى الجنوب ، فان إسرائيل أصرت على ان حدودها العسكرية " الآمنة " مع مصر هى خط آخر يقع على الغرب من الحدود السياسية المذكورة والى الخلف منها بمسافة حوالى 150 كم ، أسمتها الحدود الآمنة .
• ولم يسمح لمصر بوضع قواتها المسلحة إلا فى شريط ممتد بموازاة قناة السويس وعلى الشرق منها بعمق متوسط 58 كم . وقيدت يدنا فى ذلك أيضا ، حيث لم يسمح لنا فى هذه المنطقة إلا بفرقة مشاة ميكانيكية واحدة تتكون من 22 ألف جندي مشاة مصري مع تسليح يقتصر على 230دبابة و126 مدفع ميداني و126 مدفع مضاد للطائرات عيار 37مم و480 مركبة . وهو ما يوازى حوالى ربع القوات التى عبرنا بها فى أكتوبر 1973 ، قبل أن يقبل السادات إعادتها مرة أخرى فى اتفاقية فض الاشتباك الأول الموقعة فى 18 يناير 1974 .
أما باقي سيناء فلقد نزع سلاحها تقريبا ، حيث جردت المنطقة الوسطى منها بطول سيناء من اى قوات ما عدا 4000 جندى حرس حدود مسلحين بأسلحة خفيفة ، وهى منطقة يبلغ عرضها حوالى 109 كم فى المتوسط
اما المنطقة الشرقية المجاورة لفلسطين وعرضها 33 كم ، فلقد نزع سلاحها تماما واقتصرت على الشرطة المصرية فقط ( البوليس ) ، بالإضافة الى 750 جندى حرس حدود سمحت بهم إسرائيل مؤخرا فى عام 2005 بموجب اتفاقية فيلادلفيا لمراقبة الحدود مع غزة ومنع التهريب والتسلل .
هذا بالإضافة إلى منع مصر من إنشاء اى مطارات او موانئ عسكرية فى سيناء .
وتخضع تحركاتنا فى سيناء لرقابة قوات أجنبية تسمى قوات متعددة الجنسية قوامها حوالى 2000 جندى ، 40 % منها قوات أمريكية ، كما ان قيادتها الدائمة أمريكية . وهم يراقبوننا من خلال قاعدتين عسكريتين : واحدة فى الجورة بشمال سيناء والثانية بشرم الشيخ فى الجنوب . بالإضافة إلى 30 نقطة تفتيش ومحطات إنذار مبكر . ولا سيادة لمصر على هذه القوات ، فلا يمكن سحبها الا بموافقة الدول الخمس الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن .
ولم تطبق المعاهدة ذات القيود على إسرائيل ، اذ اكتفت بوضع مراقبين مدنيين قوامهم لا يتعدى 100 شخص فى شريط حدودي لا يتعدى عرضه 4 كم داخل فلسطينالمحتلة . حيث رفضت إسرائيل وجود قوات أجنبية على أراضيها .
وأسباب تجريد مصر من إمكانية الدفاع عن سيناء ، واضحة ، و تتحدد فى الرغبة الأمريكية الإسرائيلية فى وضع النظام المصرى تحت ضغط دائم و خوف مستمر من إعادة احتلال سيناء مرة أخرى . وهو ما يسهل من عملية إخضاع إرادته والتحكم فى قراراته فى مسائل متعددة .
• وهو ما أعلن عنه صراحة وزير الأمن الداخلي الاسرائيلى آفى ديختر فى محاضرته فى سبتمبر 2008 حين قال :
" سيناء عندما انسحبنا منها ضمنا أن تبقى رهينة . هذا الارتهان تكفله ضمانات أمريكية من بينها السماح لإسرائيل بالعودة إلى سيناء وكذلك وجود قوات أمريكية مرابطة فى سيناء تملك حرية الحركة والقدرة على المراقبة بل ومواجهة أسوأ المواقف ، وعدم الانسحاب تحت أي ظرف من الظروف . وقد تعلمنا من سابقة 1967 دروس لا تنسى . سيناء مجردة من السلاح ومحظورة على الجيش المصرى الانتشار فيها هى الضمانة الوحيدة و هى الضمانة الأقوى لاحتواء أى تهديد افتراضي من جانب مصر"
* * *
• ومن ثم فان حدود مصر السياسية لا تتطابق مع حدودها العسكرية ، وسيادة الدولة المصرية عسكريا مقيدة فى ثلث سيناء ومعدومة فى الثلثين الباقيين ، لتحل محلها سيادة أمريكية تحت مسمى متعددة الجنسية كما أسلفنا .
• ويرجع عدد من الخبراء عزوف الدولة عن تعمير سيناء بشريا على امتداد ثلاثين عاما ، إلى الخوف من وضع مواطنيها رهينة فى يد إسرائيل ، إن هي كررت العدوان على سيناء مرة أخرى . فالتوطين بدون حماية عسكرية هو خطأ كبير ، و هو ورقة ضغط على الإدارة المصرية وليس على إسرائيل ، وهو ما دفع جمال عبد الناصر بعد حرب 1967 مباشرة الى إخلاء مدن القناة وتهجير مواطنيها الى الداخل ، خوفا عليهم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة .
أما ما تطرحه القوى الوطنية من ضرورة تعمير سيناء وتسليح سكانها لمواجهة اى عدوان صهيونى قادم ، فانه حلم جميل يستحيل تحقيقه فى ظل هذا النظام ، فهو وضع يمثل خطورة عليه بنفس القدر الذى يمثله بالنسبة لإسرائيل ، فالجماهير المنظمة والمسلحة لن تقبل بها وتتحملها أنظمة مثل النظام المصرى الذى يحكم شعبه حكما بوليسيا .
كما تشير بعض التحليلات إلى أن هناك شروطا سرية بين مصر وإسرائيل تمنع قيام مصر بتعمير سيناء ، وان الفراغ السكانى هناك هو شرط صهيوني . قبلته مصر ضمن سلسلة أخرى من البنود والاتفاقات السرية بينهما التى تمت تحت الضغط الامريكى .
• و رغم ان المعاهدة قديمة ومعلنة منذ أكثر من ثلاثين عاما ، الا أن معظم المصريين وقواهم الوطنية لم يكتشفوا أزمة السيادة المصرية فى سيناء الا خلال العامين السابقين فقط ، بعد إحكام الحصار على غزة وإغلاق السلطات المصرية لمعبر رفح استجابة للضغوط الأمريكية الإسرائيلية ، وما تم أخيرا من بناء الجدار الفولاذي الهادف الى القضاء الكامل على الأنفاق .
ولقد تأكد للجميع الوضع الشاذ لسيناء فى منظومة السيادة المصرية ، من خلال منع السلطات المصرية لاى قوافل او زيارات ورحلات سلمية تضامنية إلى سيناء ، فاى مصري معادى لإسرائيل ونصير لفلسطين وللحقوق الفلسطينية ممنوع من الدخول إلى سيناء ، ممنوع من عبور قناة السويس ، يتم إيقافه قبل نفق احمد حمدى او كوبرى السلام ويعاد مرة أخرى من حيث أتى .
وذلك فى الوقت الذى يسمح للإسرائيليين بالدخول إلى سيناء والإقامة فيها لمدة 15 يوم بدون تأشيرة ، بموجب اتفاقية ثنائية تستثنيهم من احكام قانون دخول وإقامة الأجانب .
هذا بالإضافة الى حملات التفتيش الأمريكية الدورية من رجال السفارة و الكونجرس لتفقد الحدود ومراقبتها ، بدون ادني اعتراض من السلطات المصرية .
* * *
• إن السيادة الفعلية فى سيناء هي سيادة الأمريكان والصهاينة اذا ما تعلق الأمر بأمن إسرائيل ، وذلك بموجب نصوص صريحة فى اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية .