ماذا بعد أن أفلت «العدالة والتنمية» من الحظر؟ خالد السرجاني رفضت المحكمة الدستورية التركية بعد ثلاثة أيام من المداولات حل حزب العدالة والتنمية الحاكم، واكتفت بفرض عقوبات مالية عليه. ويعتبر قرار المحكمة تحذيرا قويا للحزب الحاكم، وذلك لمنعه من نصف التمويل السنوي الذي يحصل عليه والذي تؤمنه الدولة التركية.
وقال رئيس المحكمة هاشم كيليج إن الحكم هو (تحذير بالغ الجدية لأن 6 من القضاة ال 11 أرادوا حظر الحزب، إلا أن المنع كان يحتاج لسبعة أصوات). ويعتبر هذا الحكم إنقاذا مؤقتا لحزب العدالة والتنمية التركي وحلفائه، في بلد غالبيته الساحقة من المسلمين يطبق نظام حكم علمانيا ويسعى إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي.
وقد يبدو من سياق الأحداث أن «العدالة والتنمية» قد نجا من محاولات الحظر، ولكن الحقيقة هي انه نجا مؤقتا، فمن الممكن أن يتقدم المدعى العام التركي بطلب آخر لحظر الحزب إذا ما أقدم على أي خطوة اعتبرها منافية لعلمانية الدولة.
ويبدو من تفاصيل التصويت الذي تم في المرة السابقة أن موقف المحكمة اقرب إلى الحظر، بالنظر إلى الأغلبية التي صوتت لصالح الحظر لكنها لم تؤمن الأصوات المطلوبة. وهنا تجب الإشارة إلى أن العدالة والتنمية قد عبر كبار قادته عن تطمينات متعددة للنخبة العلمانية، من أجل التصدي لقرار حظره، وبلغ الأمر برجب طيب أردوغان رئيس الوزراء ورئيس الحزب، أن قدم ما يشبه النقد الذاتي لسلوك الحزب ووعد بعدم تكرار نفس السلوك إذا ما أفلت من الحظر، وكل ذلك يؤكد أن سيف الحظر سيظل مسلطا على الحزب خلال الفترة المقبلة.
وهو ما يعنى أن محاولاته لأسلمة الدولة وتغيير نمط العلمانية في تركيا ستتوقف، لأن السائد لدى محللين كثر أن الحزب كان يريد تحويل تركيا من تبني نمط العلمانية المتخاصمة مع الدين، إلى نمط علماني آخر هو العلمانية المتصالحة مع الدين، وهو الأمر الذي استفز النخبة العلمانية وجعلها تقدم على خطوة محاولة حظر الحزب عن طريق المحكمة الدستورية العليا في تركيا.
وهذه التطورات تعني أمرين، الأول أن الحزب سيظل في موقف ضعف في الفترة المتبقية من ولايته، لأن النخبة العلمانية ستظل تلوح بالحظر مع كل خطوة يقدم عليها وتتصور أنها تهدف إلى النيل من علمانية الدولة، بل وستتقدم إلى المحكمة العليا من أجل إلغاء قرارات أو قوانين يصدرها البرلمان الذي يسيطر عليه العدالة والتنمية، مثلما حدث بشأن القانون الخاص بالسماح بارتداء الحجاب داخل الحرم الجامعي.
أما الأمر الثاني فهو أن الحزب سيتخلى عن هويته الإسلامية ويتحول إلى حزب ليبرالي معتدل، ينفذ السياسات التكنوقراطية اللازمة للتصدي للمشكلات التي تواجهها تركيا في الوقت الراهن، وهذا يعني أن الحزب يمكن أن يخسر الكوادر والعناصر الإيديولوجية داخله بما يؤثر سلبيا على شعبيته وجماهيريته.
فحزب العدالة والتنمية أصبح خاضعا لحرب استنزاف من النخبة العلمانية، وأصبحت سياساته موضع مراجعة من قبل المحكمة العليا، وأصبحت أي هفوة صغيرة من قيادة الحزب أو حكومته يمكن أن تؤدى إلى حظره، أو على الأقل دخوله في حلقة جديدة من حرب الاستنزاف.
على الرغم من أن الحزب نجح في آخر انتخابات برلمانية باكتساح، في تجربة ليست مسبوقة في تاريخ تركيا الحديث ولا نتوقع لها أن تتكرر، إلا أن يده لم تعد مطلقة في اتخاذ السياسات التي يريدها عناصره وكوادره، وهو الأمر الذي سعى إليه في السنة الأولى من ولايته الثانية، لكن النخبة العلمانية حالت دون ذلك عبر اللجوء إلى المؤسسة الوحيدة التي لا تخضع حاليا لسيطرة الحزب، وهى مؤسسة القضاء التي لا يستطيع أحد أن يشكك في علمانيتها المطلقة.
وإذا كانت المحكمة العليا قد خذلت النخبة العلمانية في أكثر من قرار، إلا أن تحليل التصويت الذي يتم داخلها وربطه بقرارات أخرى صدرت عن نفس المحكمة، يؤكد أن يد الحزب والبرلمان بل والحكومة، لم تعد مطلقة في اتخاذ أي قرار أو إصدار أي قانون يمكن أن يؤثر على هوية الدولة، أو حتى يتماس معها بما يمكن تأويله بأنه يمس النمط العلماني للدولة التركية.
فقد يبدو من ظاهر الحدث أن العدالة والتنمية خرج منتصرا لأنه أفلت من قرار الحظر، ولكن الغوص في أعماق الحدث وتفاصيله يظهر أن ما حققه الحزب هو نصف انتصار، في الوقت الذي حققت فيه النخبة العلمانية نصف انتصار هي الأخرى، وحققت تركيا كدولة انتصارا كاملا، فهي من جهة أكدت على عمق تجربتها الديمقراطية ولم تتخذ قرارا يمكن أن يؤثر سلبا على فرص انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.
ومن جهة ثانية أعطت رسائل مباشرة لحزب العدالة والتنمية تحول دون استئثاره بالسلطة والجنوح بها تجاه جدول أعمال لا يهم سوى كوادره الحزبية فقط. فما حدث في الأسبوع الماضي ما هو إلا إعادة التوازن مرة أخرى إلى الساحة السياسية التركية بعدما اخل بها حزب العدالة والتنمية وتصور أن لديه تفويض شعبي بإعادة تشكيل السياسة التركية، على أسس جديدة ومختلفة عن تلك التي سادت هناك منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن.
فهل فهم العدالة والتنمية هذه الرسائل؟ أم أن تراجعه عن سياسته كان تكتيكيا فقط حتى تمر العاصفة ليعود مرة أخرى ليستأنف محاولات أسلمة الدولة مرة أخرى؟ وهل سيعطي للقوى الأخرى متنفسا سياسيا أم أنه سيظل مستأثرا بالسلطة التنفيذية والتشريعية ليعطى للعلمانيين الفرصة في البحث عن حلقة جديدة من حلقات حرب الاستنزاف ضده؟! عن صحيفة البيان الاماراتية 7/8/2008