خطة طريق للسودان الشقيق د. حسن أبوطالب الآن وقد هدأت نسبيا ردود الفعل علي مذكرة مدعي المحكمة الجنائية الدولية المتضمنة اتهامات للرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور, وبعد أن صدر قرار مجلس الأمن بتمديد مهمة القوات الأممية الإفريقية المشتركة في الإقليم السوداني المضطرب لمدة عام آخر, ومتضمنا إشارة إلي مخاوف الاتحاد الإفريقي من تأثير ملاحقة الرئيس البشير علي السلام في دارفور, فإنه يمكن التفكير في المستقبل بقدر من الحكمة وبعد النظر. فالقرار الدولي, وإن لم يتضمن صيغة مباشرة بوقف ملاحقة الرئيس السوداني كما كانت تطالب سبع دول في المجلس, إلا أنه يوفر فسحة زمنية لمدة عام علي الأقل لمعالجة الأمر جذريا. بيد أن هذا الأمر يتطلب شروطا عدة من أهمها علي الإطلاق اثنان; الأول أن يقوم السودان بإصدار قانون خاص لمحاكمة مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان في دارفور, بالاستعانة بخبرات عربية ودولية مشهود لها, وأن تتم محاكمة شفافة وعادلة ومتوافقة مع المعايير الدولية والإنسانية المعتبرة لهؤلاء المتهمين أيا كانت مواقعهم الوزارية أو الوظيفية, وذلك حتي لا تكون هناك حجة علي السودان ويظل متهما أنه يحمي المجرمين بأي شكل كان. الثاني أن تحشد كل الجهود والطاقات الممكنة للتوصل إلي اتفاق سلام شامل مع حركات التمرد برعاية إفريقية ودولية مشتركة, وبحيث يصبح انتشار القوات الأممية له رسالة ومعني محدد وواضح يتمثل في رعاية تطبيق الاتفاق وتمتين الأمن والاستقرار في الإقليم. وبالقطع لا يوجد من ينكر أهمية التوصل إلي اتفاق سلام شامل قابل للتطبيق ومنصف للجميع, ولكن علينا أن نشير إلي عدة صعوبات قابلة للحل, منها أن هناك انقساما سرطانيا لحركات التمرد المسلح, فبعد أن كانت حركتين قبل أربعة أعوام, هما العدل والمساواة وحركة تحرير السودان, ولكل منهما عنوان محدد ورؤية لأسباب الصراع وطريقة حله, وصل عددها أخيرا إلي30 حركة تمرد, بعضها صغير وبعضها متوسط, والكثير منها برز علي السطح نتيجة انقسامات داخلية في حركات التمرد الأم من جانب, ونتيجة الطموحات الفردية لعدد من شخصيات الإقليم المنسوبة إلي هذه الحركة أو تلك والممزوجة بدعم مادي وسياسي من قبل قوي إقليمية أو دولية للعب دور مناهض لأي عملية سلام معقولة في دارفور, أو نتيجة رغبة وطموح فردي في الحصول علي أكبر دعم مادي ممكن من الأممالمتحدة في سبيل تسهيل مهمة القوات الدولية. وفي المحصلة يحدث التأخير والتسويف لأسباب لا علاقة لها بدارفور وأهلها ومطالبهم المشروعة. وهو أمر يضع مسئولية أخلاقية وسياسية علي هؤلاء الذين يحتضنون مثل هؤلاء القادة المتمردين من أجل أن يكونوا مجرد أوراق للمساومة بها مع حكومة الخرطوم لمصالح ومنافع بعيدة تماما عن أصل القضية ومسارها. ومثل هذه المسئولية الأخلاقية تتطلب وقف الدعم بكل أشكاله لهؤلاء المتمردين, وإجبارهم علي التعاون الكامل مع جهود الاتحاد الإفريقي الخاصة بالتوصل إلي اتفاق سلام شامل. مسئولية الذين يدعمون حركات وزعماء التمرد الدارفوريين علي النحو المشار إليه تقابلها مسئولية من قبل الحكومة القومية والأحزاب وبصفة خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تعد بمثابة الشريك الأساسي والأكبر استنادا إلي اتفاق نيفاشا لحزب المؤتمر الحاكم بزعامة الرئيس البشير. واللافت للنظر هنا أنه رغم تشكيل لجنة حكومية برئاسة سيلفا كير رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية من أجل وقف أية إجراءات دولية بحق الرئيس, فإن لغة الحركة الشعبية بشأن طريقة التعامل مع صحيفة اتهامات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تختلف تماما عن لغة المؤتمر الوطني الحاكم. فالأولي تري ضرورة التعامل الإيجابي مع المحكمة الجنائية وعدم اللعب مع الكبار حسب تعبير ياسر عرمان المتحدث الرسمي باسم الحركة, فإن المؤتمر يرفض مثل هذا التعامل ويصر علي إنهاء أية إجراءات بحق البشير, مستندا إلي أن عدم عضوية السودان في اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية يعفيه من التعامل مع اتهاماتها. هاتان اللغتان المختلفتان تضعان تساؤلات كثيرة بشأن دور اللجنة الحكومية التي يرأسها سيلفا كير وتحديدا حول المنهج الذي ستتبعه في التعامل مع ادعاءات المدعي الدولي, ومحاصرة تداعياتها علي الوضع في الداخل بصفة عامة, وعلي الأوضاع في دارفور بصفة خاصة. وإذا كان طبيعيا أن يكون هناك اختلاف في الرؤية بين القوي المتحالفة مع بعضها البعض إزاء قضية أو أخري, فإن طبيعة قضية الاتهامات الموجهة للرئيس وتأثيراتها المتوقعة علي مجمل الوضع السوداني تفرض ألا يكون هناك مثل هذا الاختلاف, وحتي إذا وجد فمن الأوفق أن يظل حبيسا في الغرف المغلقة, لأن انتشاره علي الملأ يقدم صورة سلبية عن دور الحركة الشعبية في صد الضغوط التي ترد من الخارج علي مجمل البلاد. كما أنه يؤكد أن تحركات الحركة تراعي متطلبات الخارج الغربي والأمريكي أكثر من مراعاتها متطلبات الداخل. وفي سياق التفكير في خطة طريق يعمل علي هديها السودان في مواجهة أي تحركات لاحقة للمحكمة الجنائية, فإن أول بنود تلك الخطة تكمن في بلورة موقف سوداني قومي يقوده الشريكان الأساسيان في الحكم الآن, وبتعاون كامل من باقي القوي السودانية, شرط أن يكون هذا الموقف القومي بعيدا عن المساومات الحزبية الضيقة التي ترتفع وتيرتها في أزمنة الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية, كما هو الوضع الراهن الآن في السودان. يتوازي مع إنشاء جبهة العمل الداخلية لتسريع الحل في دارفور, السعي إلي إنشاء جبهة أخري, ولكن علي المستويين الإقليمي والإفريقي, فهما العمق الحقيقي لمساندة السودان في محنته الراهنة. ولذلك تعد الخطوة الخاصة بتجاوز الخلافات مع تشاد, وبناء علاقات صحية معها انطلاقا من الروابط القبلية والاجتماعية التي تجمع بين شعبيهما, من شأنه أن يمثل دعما للسلام المشترك, وإذا ما تحلت الحكومة التشادية بقدر من الحكمة وأنهت دعمها لمتمردي دارفور ووظفت ما لديها من علاقات معهم من أجل الإسراع بتسوية سلمية فهو أمر مقدر قطعا. وثمة ضرورة للعمل علي نطاق قوي كبري لها مصالح بارزة في الداخل, وفي طليعتها الصين وروسيا. وإذا كان هناك أي تخوف مشروع, أو من قبيل الحذر من حدوث تراجع صيني في مساندة السودان وموقفه في مجلس الأمن مستقبلا, فالمطلوب أن تبدأ الحكومة السودانية نوعا من الحوار الاستراتيجي الموسع والشفاف مع الصين حول هذه التخوفات المشروعة, لاسيما أن الصين, بالرغم من مصالحها الواسعة نفطيا وتجاريا في السودان, تعتبر أن مصالحها مع الولاياتالمتحدة وأوروبا أكثر أهمية ولا يمكن التضحية بهما, في حين يمكن التضحية مثلا بمصالحها النسبية في بلد كالسودان. إن هذا الحوار لا مفر منه حتي تتبين حدود الرؤية السياسية للخرطوم وكيفية التعامل مع المتغيرات غير المتوقعة. وتظل هناك مسئولية خاصة علي وزارة الخارجية السودانية والجهات الإعلامية الداخلية, مسئولية تقوم علي توفير الحقائق كاملة بشأن ما يجري في دارفور. فالمعروف أن الصورة العامة للحكومة المركزية في الإعلام الغربي وفي بعض الإعلام العربي ليست إيجابية, وتستند إلي انطباعات وتقديرات مغرضة في أكثر الأحوال. وفي حين أن هناك تقارير دولية ومن منظمات إنسانية عديدة تطرح صورة مخالفة لما يرد في الإعلام الغربي والأمريكي, فإن الجهات السودانية لا تقوم بما عليها من نشر التقارير التي تصب في مصلحتها, ربما نتيجة كسل أو عدم دراية بدور المعلومات الموثقة في بناء صورة أفضل وأكثر إيجابية. والنصيحة هنا أن يتم تجميع كل التقارير الدولية وطبعها في صورة كتاب أبيض باللغتين العربية والإنجليزية توضيحا لما يجري, والأفضل أن يكون هناك كتاب أبيض آخر حول جهود الحكومة القومية بشأن التنمية ومشروعاتها في دارفور, وأن يرافقها كتاب ثالث حول موقف الحكومة القومية من مفاوضات التسوية التي جرت سابقا تحت الرعاية الإفريقية, مع مقارنات موثقة من مواقف حركات التمرد, حتي يعرف القاصي والداني من هو الأكثر اهتماما بالأهل في دارفور, ومن هو الأكثر مساومة بمصالحهم لحسابات ضيقة وذاتية. إن خطوات رد الاعتبار للسودان وللسلام في دارفور وغيرهما كثيرة وبسيطة في آن واحد, والمهم هو أن يكون هناك من يهتم بالقيام بالدورالمنوط به علي الوجه الأكمل. عن صحيفة الاهرام المصرية 6/8/2008