لغز وفاة ياسر عرفات لازال حتى اليوم معقدا، وثلاثة اعوام جحاف وجثمان الطاهر ما زال يرواح مكانه، لم يستطع احد من الخلق السير به الى حيث اراد صاحب الذكرى الى مسقط رأسه مدينة القدس، ومع ماحملته تلك السنوات القاسية علينا نحن الفلسطينين من ويلات ومآسي داخلية وخارجية تترواح الكثير من التساؤلات هنا في عقول الملايين ممن اعتنقوا نهج هذا الزعيم الخالد من قتلك يا ياسر؟ وكيف تمت العملية الجبانة تلك؟ حين تجرأ احدهم على دس السم في طعامك وتسلل الى جسمك النحيل لينال منك جسدا لا فكرا.
في المقاطعة في مدينة رام الله مقره الدائم كان مئات من العمال والجنود والمهندسين ينكًبون على العمل يسارعون الوقت يضعون اللمسات الاخيرة على متحفه والذي استغرق بناءه اكثر من عامين ونصف العام بتمويل من السلطة الفلسطينية اقيم في مقر الرئاسة تخليدا لذكرى الزعيم الراحل الذي قاد النضال الوطني الفلسطيني على مدى اربعة عقود، في داخل المتحف يجثم ضريحه الذي تسكنه روحه الطاهرة، عمال يعملون كل حسب اختصاصه، كان ذلك قبل حلول الذكرى بيومين توجهت الى هناك برفقة زميلين لي هما بسام الكعبي وعاطف ابو الرب، طلبنا الاذن بالدخول من الرجال هناك سمحوا لنا ولكن مع عدم التأخير استعدادا لإنهاء العمل قبل حلول الظلام ايذانا بافتتاحه رسميا من قبل الرئيس ابو مازن، رأيتهم يعملون كسرب النمل بانتظام دخلنا الى قلب المتحف الشامخ وأول ما يصادفك وانت قام من بعيد لقراءة الفاتحة على روح الشهيد عبارة الى الجهة الغربية بجانب المكان للشاعر الفلسطيني محمود درويش "... كل واحد فينا فيه شيء منه." تجولنا في المكان الذي تزيد مساحته العشرة دونمات كانت باقات الورد تنشر في كل الاتجاهات وكان المزارعون يستعدون لغرسها بالارض بعد انهاء العمل لتبقى نظرة ذوو رائحة زكية.
ولحسن الحظ كان احد المهندسين المشرفين على التجهيزات الفنية يعطي تعليماته للعمال على عجلة كنا ندون بعض الملاحظات السريعة، طول المتحف يبلغ احد عشر مترا وهو يوم الحادي عشر من الشهر الذي استشهد فيه، وعرضه ايضا كطوله وهو الشهر الحادي عشر من السنة التي قضي فيها ابو عمار شهيدا، وعلى زاوية مسجد الرئيس عرفات القريب من المتحف شيدت منارة طولها يساوي السنوات التي ترأس فيها ياسر عرفات منظمة التحرير الفلسطينية منارة ال32 مترا، سألنا عن سر تلك الثلاث شجرات من الصنوبر التي لا يتلاءم جمالها والمكان فخرجت الاجابة من فيه اربع اشخاص: " وصية المرحوم" ان يدفن تحت هذه الشجرات وتلقي بظلالها عليه، وانت تلتف من الجهة الشمالية والغربية والشرقية للمتحف تشعر بانك على ضفاف نهر او شاطئ بحر، بركة من المياه تحيط المكان الا من جهة واحدة، هي حركة فنية تكسر جمود المكان توحي بالحياة لكل من يشاهدها وكان المتحف يعتلي قارب يسير فوق الماء هذا، بركة الماء ايضا تعني ان ساكن هذه الديار مغادر هذا المكان الى القدس التي قضى من اجلها. هكذا اراد المهندس البارع جعفر طوقان لهذا الصرح الشامخ ان يكون ابداع في التصميم ليكون بحجم الحدث المهم رحيل ياسر عرفات.
ويضم المتحف بداخله مقتنيات الرئيس الراحل من كوفيات وبزات عسكرية ومسدسات وهدايا تلقاها من زعماء دول مختلفة، و سريره المتواضع الذي كان يستخدمه عند اصابته بالمرض الغامض الذي يتهم الفلسطينيون اسرائيل ورئيس وزرائها حينئذ آرييل شارون بالتسبب فيه، لقد قضى ياسر عرفات برصاصة السم، تاركا خلفه شعبا اعزل لا حوله له ولا، نهشت الخلافات الداخلية جسمه المتماسك لتحوله الى جسد هش سهل النيل منه، وعدوا تزداد قوته بازدياد الخلافات بين فصائله وتنظيماته السياسية والعسكرية.
ونحن هناك في حضرة الشهيد استعادة ذاكرتي شيئا بسيطا جدا مما اعرفه انا عن حياته الوافرة فهو محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني الرئيس الفلسطيني، اول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس لحركة فتح كبرى التنظيمات داخل المنظمة، قاد الشعب الفلسطيني طيلة سنوات نضاله وسعى ان يجبنه ويلات التشرد والاحتلال، خاض جولات صعبة من المفاوضات من الاسرائيليين ولكنهم فشلوا مع الرئيس الامريكي ان ينتزعوا من القائد أي تنازل يذكر، وعاد منتصرا على اعداء القضية.
غاب جسد ياسر عرفات وما زالت فكرته حية، عاش مشردا بين الدول والبلدان العربية والاوروبية باحثا عن امل لهذا الشعب المسكين، ودفن طائر الفنيق بين ابناء وطنه الذين احبهم فأخلصوا له، وما زال المشهد الاخير لحظة مغادرته المقاطعة متجهة الى فرنسا للعلاج يؤرق من اختلفوا معه اكثر ممن اتفقوا على نصرته.