وكانت البداية في الثاني من أغسطس! د. عبد المنعم سعيد من كثرة الأنباء المؤسفة الآتية من العراق ربما سوف يمر اليوم الثاني من أغسطس دون أن يتذكر أحد أن الحالة المأساوية التي نشاهدها الآن بدأت في ذلك اليوم. في ذلك اليوم المشؤوم كانت البداية بمكالمة في الصباح الباكر من الصديق د. أسامة الغزالي حرب الذي أخبرني فيها أن العراق قام بغزو الكويت. ولما كان الأستاذ السيد ياسين رئيسنا ومدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام في طريقه إلى عمان للعمل مديرا لمنتدى الفكر العربي فقد وقع على عاتقنا باعتبارنا أقدم الخبراء أن نحدد الطريقة التي على المركز أن يعالج بها الموضوع. وفي الساعة العاشرة صباحا كانت الهيئة العلمية للمركز قد اجتمعت حيث دارت المناقشات حول المصالح المصرية في الأزمة التي نشبت توا، وللمفاجأة كان هناك توافق بين جميع أعضاء المركز ما عدا عضوين فقط حول ما الذي على مصر أن تقوم به وتستطيع عمله. وكنت أنا الذي قمت بصياغة آراء الزملاء في ورقة عمل عرفت بتقدير الموقف رقم (1). وكان طريفا في ذلك الوقت أنه كان بالمركز جهاز واحد بدائي للكمبيوتر، ولا يعرفه إلا د. حسن أبوطالب الذي قام مشكورا بكتابة التقرير صفحة بعد صفحة بمجرد انتهائي من صياغتها. وقبل أن تصل الساعة إلى الواحدة ظهرا كان التقرير قد رفع إلى الجهات المعنية في الدولة عبر قيادة الأهرام. وخلال فترة الأزمة كان المركز قد أعد 55 تقريرا للموقف، أظنها أسهمت مساهمة متواضعة في إدارة مصر للأزمة، وكان ما جرى في هذا الوقت واحدا من المناسبات التي تذكرتها عندما تساءلت صحيفة روز اليوسف الغراء منذ شهور عن مدى المساهمات التي قام بها المركز منذ حرب 1973 في السياسات العامة. ولكن دور المركز ليس هو موضوعنا الآن، وإنما القضية كيف كانت هذه الحرب التي تمر ذكراها اليوم هي المقدمة التي قادت إلى الحالة التي يعيشها العراق الآن. وربما يكون صحيحا ما يراه بعضنا أن البداية كانت في الحرب العراقية-الإيرانية، أو كانت قبلها عندما تولى صدام حسين الحكم، ومن ساعتها خاض حروبا مع الأكراد، ومع إيران، ومع الكويت والدول العربية الأخرى، وأخيرا اصطادته الولاياتالمتحدة وحلفاؤها وخسر هؤلاء الحرب أيضا، ولكن العراق لم ينتصر على أية حال. ومن الجائز أن بعضا من نصائحنا لم تكن على صواب خلال هذه المرحلة، ففي الأيام الأولى من شهر يناير 1991 طرح السؤال في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام في القاهرة، حول ما الذي ينبغي عمله بعد أن يتم تحرير الكويت في المعركة التي بات محسوما قيامها خلال أسابيع قليلة. أيامها توصل المركز إلى أربعة سيناريوهات قاد ثلاثة منها إلى حالة مأساوية في العراق تشبه الحالة التي يعيشها الآن من حرب أهلية وتدخل أجنبي من قبل إيران وتركيا واستباحة إرهابية من كل جماعات العنف، أما السيناريو الرابع فقام على تكبيل صدام حسين وحجزه داخل العراق بعد تقليم أظافره وأسنانه. وإلى حد كبير كان ذلك هو ما جرى في الحرب التي بدأت في 17 يناير 1991 لأن جميع مراكز التفكير سواء كانت في الولاياتالمتحدة، أو في أوروبا، أو في عواصم عربية أخرى، توصلت إلى ذات النتيجة التي توصلنا إليها في القاهرة. فلم يكن أحد على استعداد للتخلص من حرب طاحنة لكي يدخل في عملية تاريخية معقدة في العراق لا يعلم أحد نتائجها. والآن، وبعد سبعة عشر عاما من غزو الكويت، فإن حكمة هذا القرار ربما تحتاج إلى مراجعة، حيث يظهر الثمن الفادح الذي دفعه العراق والمنطقة نتيجة بقاء صدام حسين في الحكم واستمرار نظامه البعثي في العراق. فلم يكن صدام قد قسم العالم العربي فقط أثناء الغزو وبعد التحرير، وإنما استمر الانقسام بعد ذلك لسنوات تالية دفع العراق ثمنها فادحا ومن بعده كل المنطقة. ولم يكن صدام قد امتص كل رحيق موجود في بغداد، أو قام عمليا بتقسيم الشعب العراقي الذي وقع ضمن مناطق اختلفت العقوبات بشأنها بين مناطق محظورة الطيران، ومناطق ممنوحة الاستقلال، ومناطق خاضعة للأمم المتحدة والنفط مقابل الغذاء. وفي النهاية كان نظام صدام قد حول العراق إلى مناطق إثنية حينما بدا كما لو كان محابيا للسنة، أو ممثلا لهم بينما كان في الحقيقة قد اختزل البلاد كلها في عائلته التي تمتعت بنوع من الوحشية الخاصة من جانب علي مجيد الكيماوي أو عدي وقصي صدام حسين. كل ذلك كان ممكنا تجنبه لو أن القوات الدولية لم تتوقف عند تحرير الكويت ومضت قدما نحو تحرير العراق أيضا. ففي ذلك الوقت لم تكن هناك القوات الأميركية وحدها بل كان معها قوات عربية ذات فعالية كان وجودها سيكون ضامنا لانسحاب القوات الغربية في النهاية، والتسليم المنظم للسلطة السياسية للشعب العراقي. في ذلك الوقت ربما كان ممكنا تجنب الأخطاء الفاحشة التي وقعت فيها الإدارة الأميركية، فلم يكن جورج بوش الأب أكثر حكمة فقط، أو أنه كان معه طاقم من المساعدين مثل جيمس بيكر أو برنت سكوكروفت أكثر معرفة بأحوال المنطقة، بل كان أكثر دراية بأحوال العالم الحلفاء منهم والأعداء، ويعرف في كل الأحوال متى يقوم بالهجوم ومتى تحين اللحظة للانسحاب، وهي صفات لا يعرف عنها جورج بوش الابن الكثير. صحيح أن «لو» تفتح الباب لعمل الشيطان، وصحيح أنه لا يمكن إعادة التاريخ وتمثيله في الواقع أكثر من مرة، ولكن ما لم تكن لدينا القدرة على إعادة فحص ما اتخذناه من قرارات، فإن دروسا كثيرة للتاريخ سوف تضيع علينا، ومن الجائز أننا سوف نرتكب ذات الأخطاء مرات أخرى. وعلى أي الأحوال فإنه لا يوجد في العالم العربي من يحب المراجعة كثيرا، وهناك من هو على استعداد دوما للتمسك بما كان، ولله في خلقه شؤون!. عن صحيفة الوطن القطرية 2/8/2007