تركيا على أعتاب جمهورية جديدة خالد السرجاني على الرغم من نفي رجب طيب اردوغان نية حزبه في الخروج على العلمانية التركية، إلا أننا لا يمكن بحال من الأحوال أن نتجاهل أن جمهورية جديدة تتأسس في تركيا على أنقاض جمهورية أخرى يبدو أنها فقدت مبررات وجودها لان تصويت الشعب التركي لصالح حزب العدالة والتنمية كان رسالة منه تفيد بهذا الصدد.
ومن المناسب أن نشير إلى ملامح هذه الجمهورية الجديدة، فالحاصل أن العديد من المراقبين العرب ركنوا إلى صوت العاطفة ولم يستمعوا إلى صوت العقل وأفادت تعليقاتهم بان جمهورية إسلامية في طريقها للتأسيس في تركيا وهذا أمر يجانبه الصواب.
فمن جهة فان الشعب التركي عندما صوت لصالح العدالة والتنمية كان احد الدوافع الأساسية لهذا الأمر هو انه يسعى إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بما يعنى اختياره للهوية الأوروبية الغربية من بين الخيارات المتعددة للهوية التركية في الوقت الراهن.
والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عمقه هو اختيار للعلمانية وليس للإسلامية. وقد وجد الناخب التركي أن الاستقرار الاقتصادي الذي تحقق على يد العدالة والتنمية يعبد الطريق أمام الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولم يكن الخيار بين العلمانية والاسلاموية من القضايا الرئيسية في الحملة الانتخابية التركية الأخيرة حتى نتعامل معها باعتبارها كرست الهوية الإسلامية للدولة.
ويمكن القول أن الانتقال الذي شهدته تركيا هو من العلمانية المتخاصمة مع الدين إلى العلمانية المتصالحة معه، وهذا ما تؤكده تصريحات رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية، ولكن من المفيد الإشارة إلى ملامح أخرى للدولة التركية الجديدة وهى المتعلقة بمصدر السلطات .
فالتغيير الأساسي الذي يعتزم حزب العدالة والتنمية إجراؤه على انتخاب رئيس الجمهورية يعنى أن الشعب التركي سيتحول إلى مصدر للسلطات، وليس أعضاء البرلمان الذين كانوا يتولون هذا الأمر في السابق. والتعديل الذي سيجريه حزب العدالة والتنمية على نظام الانتخاب ومدة تولى رئيس الجمهورية لا تعني أن رئيس الجمهورية المقبل سوف يصبح من الإسلاميين.
فبعيدا عن أن اردوغان أشار إلى أن سيتم البحث عن شخصية توافقية، ليس من الملزم أن تكون من الإسلاميين، فان التصويت الذي حصل فيه حزب العدالة على نسبة تقل عن 48% تعنى انه يمكن أن يتكتل النواب الذين لم يصوتوا للعدالة لصالح مرشح آخر غير منتم للحزب وبالتالي ينتخب هذا المرشح الآخر رئيسا للجمهورية، وحتى لو تم انتخاب مرشح يدعمه العدالة والتنمية في أول انتخابات تجرى وفقا للنظام الجديد، فان ذلك لا يعني أن هذا المنصب سوف يصبح حكرا عليه، بل سيتم تداوله بين شخصيات سياسية متعددة، وإلا أصبحت الشمولية احد ملامح الجمهورية الجديدة في تركيا.
وإذا كانت العلمانية المتصالحة مع الدين هي احد ملامح الجمهورية الجديدة في تركيا، فان الملمح الثاني سيكون هو تحويل منصب رئيس الجمهورية من منصب شرفي بلا سلطات إلى منصب له سلطات صغيرة لكنها فعالة تدخله إلى اللعبة السياسية بعيدا عن التهميش الذي كان يميز الجمهورية التركية السابقة المتقادمة. ومن الملامح الأساسية في الجمهورية الجديدة تخفيف قبضة العسكر عن العملية السياسية، وقد قطع حزب العدالة والتنمية شوطا طويلا في هذا المجال خلال حكومته السابقة، ومن المنتظر أن يقطع أشواطا أخرى جديدة في حكومته الجديدة.
ومن المناسب الإشارة إلى أن الحزب لم يكن لينجح في هذا المجال من دون وجود مناخ دولي معارض لتدخل العسكر في السياسة وهذا هو السبب الأساسي الذي حال دون تدخل المؤسسة العسكرية التركية لإجهاض تجربة حزب العدالة والتنمية من أساسها. وهو الذي مازال يحول دون ممارسة المؤسسة العسكرية التركية ضغوطا غير مباشرة على الحزب من اجل تغيير سياساته.
ومن الملامح الأساسية لجمهورية تركيا الجديدة الاستقطاب الواضح بين اتجاهين أساسيين وهما التيار الإسلامي والتيار القومي غير المتطرف، وغياب التيارات الأصيلة الأخرى عن الساحة السياسية التركية ونقصد بها كلا من التيارين الليبرالي واليساري، وهذا الأمر يمكن أن تكون له تداعيات سلبية في المستقبل.
ويرتبط بهذا الملمح مصالحة وتسامح مع الأقلية الكردية، ليس فقط لان حزبا متعاطفا معها نجح في التمثيل في البرلمان التركي، ولكن لان حزب العدالة والتنمية كما يبدو من ممارساته السياسية خلال سيطرته على السلطتين التنفيذية والتشريعية أبدى تسامحا مع الأكراد على الرغم مما سببه له ذلك من مشاكل مع تيارات سياسية أخرى، وأيضا مع المؤسسة العسكرية.
وهناك تخوف لدى المهتمين بالشأن التركي، وهو أن يحول حزب العدالة والتنمية تركيا إلى طريق الشمولية، ذلك أن سيطرته الطويلة على السلطتين التنفيذية والتشريعية يمكن أن تغريه بهذا الأمر، ولكن هذه التخوفات تتراجع أمام تصريحات متعددة لرجب طيب اردوغان حول المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية والذي لم يشترط أن يكون من حزب العدالة والتنمية. فهذه التصريحات تؤكد أن الحزب واع لهذه المخاوف .
وهذا الموقف قد لا يكون لأسباب تتعلق بخوف الحزب على الأسس الديمقراطية لتركيا بقدر ما هو خوف على الحزب ذاته. فما يحول دون تدخل المؤسسة العسكرية لوأد تجربة الحزب هو موقف الخارج الذي يرفض التدخل العسكري في الشأن المدني، ولكن استئثار الحزب بالحكم تجاه الديكتاتورية يمكن أن يجعل هذه الدول تتغاضى عن هذا الأمر بما يسمح للمؤسسة العسكرية بوأد التجربة. أي أن العدالة والتنمية يحمي نفسه بهذا السلوك أكثر من كونه يسعى وراء تجربه ديمقراطية سليمة ومتكاملة.
ومهما يكن من أمر فان تركيا الآن على أعتاب جمهورية جديدة بدأت ملامحها تتشكل بالفعل.