ثورة يوليو .. ما لها وما عليها مرسي عطا الله بعد أيام قليلة تحل الذكرى الخامسة والخمسون لثورة 23 يوليو التي اندلعت عام 1952 تحمل اسم «الحركة المباركة» وأطلقت مبادئها الستة التي ألهبت مشاعر الناس الذين حولوها من حركة تحمل كل سمات الانقلاب العسكري إلى ثورة تحظى بأوسع تأييد شعبي تجاوز حدود الوطن وتخطى ساحات الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. وبصرف النظر عما جرى من أحداث ووقائع وما تحقق من انتصارات أو انكسارات فإن أحدا لم يستطع أن يشطب هذه الثورة من ضمير الأمة بدليل أنها مازالت حتى اليوم حية وعفية تزداد مع الأيام قوة ورسوخا برغم حدة الجدل العنيف بين من يعتقدون أنها نعمة النعم التي أفادت مصر والأمة وبين من يصرون على أنها أشد النقم التي أصابتنا وأقعدت حركتنا في مجالات عديدة ! والحقيقة أنه بعيدا عن الانزلاق إلى منحدر الجدل العقيم الرافض لأي حوار موضوعي حول الثورة بإيجابياتها وسلبياتها يظل السؤال الضروري والأهم هو : هل كانت مصر بحاجة إلى تغيير الأوضاع التي كانت عليها قبل يوم 23 يوليو عام 1952 أم لا؟ في اعتقادي أن أشد الناس عداء للثورة، واختصاما لها ليس بمقدورهم أن يقولوا إن مصر لم تكن بحاجة إلى مثل هذا التغيير وبصرف النظر عن المسمى الذي يحقق هذا التغيير هل هو انقلاب.. أم هو حركة مباركة .. أم ثورة شاملة؟ ثم إن أحدا لا يستطيع أن يجادل في أن أحوال مصر قبل يوليو 1952 كانت قد بلغت قدرا من التردي والسقوط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لم يعد بالإمكان احتماله خصوصا بعد أن انفصل، رموز الحكم وزعماء الأحزاب وملاك الأراضي وأصحاب رؤوس الأموال عن الواقع ولم يعد يهم أحدا منهم شيء سوى مصالحه الذاتية التي تتحقق باستجداء رضا السفارة البريطانية أو الحصول على العطف الملكي الكريم أو تقديم الرشاوى لبطانة الخاصة الملكية. باختصار شديد كانت كل نذر الشارع المصري تعكس سخطا غير مسبوق حتى بلغ الأمر ذروته في حريق القاهرة في 26 يناير 1952 الذي كان بمثابة جرس إنذار بأن درجة الغليان قد اقتربت من حد الانفجار وأن هذا الغضب الشعبي المكتوم يتأهب لانتهاز أية فرصة لإعلان احتجاجه وتبرمه من سوء الأوضاع وفساد الأحوال. ومعنى ذلك أن كل شيء كان مهيئا للثورة .. وربما كان الخوف والحذر الذي اعتمل في نفوس البعض آنذاك أن مثل هذا النوع من الثورات الشعبية التلقائية قد يعطي الفرصة لبعض المغامرين والانتهازيين ممن يريدون ركوب موجات الغضب فيعمدون إلى نشر الفوضى وإجهاض حلم الثورة قبل أن تولد. والأهم من ذلك كله أن الأحزاب السياسية التي كانت تشارك في لعبة تبادل كراسي الحكم قبل يوليو 1952 كان بينها ما يشبه الإجماع على أن الأمور قد بلغت حدا يصعب القول بإمكانية استمراره، وأنه ما لم تبادر الأحزاب بتطهير نفسها بنفسها فان التطهير قد يفرض عليها وربما يصل إلى حد الاقتلاع الكامل لها. لقد كان هناك من الأحزاب، من يحصل على الأغلبية مثل حزب الوفد صاحب الشعبية الواسعة في ذلك الوقت ولا يمكث في الحكم سوى عدة أشهر.. وكانت هناك أحزاب القصر والزعامات المرتبطة بالسفارة البريطانية التي لا تشعر بلذة الحكم والسلطة لإحساسها بأنها مكروهة ومرفوضة شعبيا. خلاصة القول إن النظام الحزبي والملكي (سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ) هو الذي وضع بذرة الثورة قبل أن يتفق تنظيم الضباط الأحرار على مغامرة القيام بها. والحقيقة أن كل الذين عاشوا هذه المرحلة من تاريخ الوطن وكذلك الذين قرأوا أوراقها وملفاتها الموثقة لديهم الآن اقتناع كامل بأنه كان مستحيلا أن تستمر الأوضاع الفاسدة لوقت أكثر من ذلك، وكان بإمكان أية قوة منظمة سياسيا أن تتحدى هذه الأوضاع وأن تحرج نظام ما قبل يوليو 1952 ولكن التحدي الذي كان يواجه مثل هذه القوى السياسية الشريفة، أن الجيش في يد الملك وأن قوات الاحتلال المرابطة في منطقة القناة مهمتها الأساسية حماية الوضع القائم في مصر الذي يضمن طول استمرار بقائها. بل لعلي أكون أكثر صراحة وأقول : إن نداء الثورة كان يعتمل في النفوس ولكن الخوف من الفشل كان يساور الجميع في ظل استرجاع مرير لذكريات ما حدث لثورة أحمد عرابي أو ما جرى لثوار ثورة عام 1919. كان الحلم والأمل والرهان يبدو مستحيلا بالنسبة للجيش الذي يقال ويسمى بأنه جيش الملك. ولم يكن أحد يعلم أن هناك نفرا من الرجال الوطنيين من ضباط الجيش قد عقدوا العزم على المحاولة مهما يكن الثمن، وقرروا أن يضعوا أرواحهم علي كفوفهم وأن يقبلوا بالمغامرة مراهنين على تأييد الشعب الذي كان قد أظهر ذروة غضبه في أحداث حريق القاهرة. ولم يكن هؤلاء النفر الأوفياء من الرجال هم فقط جمال عبد الناصر ورفاقه الاثنا عشر الذين عرفهم الناس فيما بعد باسم مجلس قيادة الثورة وإنما كان هناك مئات من الضباط من ذوي الرتب الصغيرة الذين انخرطوا في المحاولة حبا في الوطن ورفضا للواقع وأملا في التغيير، وهؤلاء هم الذين حملوا على صدورهم بعد النجاح الذي تحقق ليلة 23 يوليو أغلى وسام وأعظم مسمى لدى الرأي العام وهو اسم الضباط الأحرار. إن من الخطأ بل والعبث أن يظن أحد أن ثورة 23 يوليو التي اندلعت في هذا اليوم قبل 55 عاما، كانت رد فعل لحدث بعينه أو أنها كانت نوعا من العصيان والتمرد، وإنما كانت ثورة حقيقية توافرت أسبابها ومبرراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد قيل مثلا إن ثورة يوليو كانت رد فعل لما جرى في حرب فلسطين، وقال آخرون إن الثورة كانت انعكاسا لغضب ضباط الجيش مما جرى من تدخل سافر للملك فاروق في انتخابات نادي الضباط، ولكن جذور الثورة كانت أعمق وأوسع وأبعد من ذلك كله بكثير ! لقد ولدت ثورة 23 يوليو عام 1952 من رحم المقاومة الباسلة ضد الاحتلال الإنجليزي الذي كان يجثم على صدر مصر منذ أكثر من سبعين عاما، والذي ساعد على نمو وترعرع شبكة واسعة من الفساد بدءا من فساد الملك وحاشيته، ومرورا بفساد الأحزاب وصراعها على السلطة، ووصولا إلى فساد اقتصادي واجتماعي رهيب خلق هوة واسعة بين غالبية مطحونة تعاني من الفقر والجهل والمرض وأقلية محدودة تنعم بكل ثروات الوطن وخيراته. وأعتقد أنه لولا أن هذه الأسباب مجتمعة كانت تشكل جذورا قوية وراسخة تسمح لبذرة الثورة بقدرة الإنبات وقدرة النمو وقدرة الإثمار لما كان قد بقي من ثورة يوليو شيء حتى اليوم.. فما أبعد الفارق بين الثورة الراسخة وبين الانقلاب الطارئ ! ثم أدلف إلى صلب ما أريد أن أتحدث عنه بصراحة في ذكرى ثورة يوليو وأقول بداية إنه لابد من أن نتفق جميعا على أن النقد حق مشروع لكل عمل سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، وبالتالي فإن ثورة يوليو ليست فوق النقد ولكن في ذات الوقت لعلنا نتفق جميعا على أن النقد لا يعرف الافتراء، لأن الافتراء يعني الاختلاق الذي يقوم على الأكاذيب ويؤدي في النهاية إلى البلبلة وفقدان الثقة وتسميم العقول لأجيال جديدة يصعب عليها أن تعبر الجسر الواسع والهوة العميقة بين مناخ الشك وعدم الثقة إلى شاطئ الحقيقة والاطمئنان للغد. أريد أن أقول إن ثورة يوليو، كانت عملا عظيما بكل المقاييس، لا يمكن اختصاره في إسقاط النظام الملكي أو تأميم قناة السويس أو بناء السد العالي أو اللحاق بعصر التصنيع والتكنولوجيا، أو في نشر التعليم والثقافة وإدخال المياه النقية وأعمدة الكهرباء إلى القرى والنجوع على امتداد الوادي كله، ولكن ذلك لا ينبغي حدوثه ولا ينبغي لأحد أن ينكرها أو يسعى للدفاع عنها وإنما ينبغي أن ينظر إلى هذه التجاوزات في حجمها الحقيقي وأن يتم نقدها في الإطار الموضوعي. ومعنى ذلك أنه من الظلم لثورة يوليو أن يتم اختصارها في شخص جمال عبد الناصر وحده لكي تتحول عملية تقويم ونقد الثورة نقدا موضوعيا إلى ساحة للتراشق بين الناقمين على شخص عبد الناصر بحق أو بغير حق، ومن يتوهمون أنهم وحدهم أصحاب الحق التاريخي في الدفاع عن الثورة، باستبدال قميص عبد الناصر بعباءة الثورة لأنه مع التسليم بأن جمال عبد الناصر هو مفجر الثورة وقائدها لكننا نظلمه ونظلم تاريخنا عندما نترك أنفسنا أسرى لجدل سخيف بين من لا يرون في ثورة يوليو إلا إنجازات عبد الناصر وحده، وبين أولئك الذين لا يرون في ثورة يوليو إلا أخطاء عبد الناصر وحده. وإذا كان يحسب لابن مصر البار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر انه كان عقل الثورة وبطلها الذي حمل رايتها الأولى وحقق أهم إنجازاتها فإن من الإنصاف أن يقال إن رفيق نضاله الرئيس الراحل أنور السادات قد نجح في رد اعتبار الثورة ومسح عار الهزيمة عام 1967 بقرار الحرب وتحقيق النصر في أكتوبر عام 1973. وسوف يسجل التاريخ في أنصع صفحاته أن الرئيس محمد حسني مبارك قد نجح في أن يحفظ لهذه الثورة زخمها بمنظور عصري يحسن التعامل مع ما وقع في العالم من متغيرات وتحولات بعيدة المدى. وعلى الذين يزعمون أن ثورة يوليو قد انتهت أن يراجعوا أنفسهم وأن يقرأوا واقع الحال بأمانة وموضوعية فاذا كان العصر قد تغير تغيرا كاملا وبات بحاجة إلى ممارسات مختلفة فإن المبادئ التي طرحتها ثورة يوليو مازالت قادرة على البقاء والاستمرار بإرادة الأغلبية التي مازالت ترى فيها سياج الأمن ونافذة الأمل. ثم أقول في النهاية إن عظمة ثورة يوليو أنها تزداد رسوخا حقبة بعد حقبة ومرحلة بعد مرحلة وتؤكد أنها لم تكن حلما لفرد بعينه، وإنما كانت حلم أمة بأسرها أثبتت أنها قادرة على أن تسلم راية الثورة لأجيال بعد أجيال ! عن صحيفة الوطن القطرية 19/7/2007