ألغاز الحرب والسلام مع إيران د. محمد السعيد إدريس عندما تذهب إلي إيران إياك والتردد في الذهاب إلي آصفهان, هناك فقط يمكن أن تبدأ مشوارك الحقيقي للتعرف, عن كثب, علي بعض مفاتيح فهم أو فك شفرة اللغز الإيراني الذي يشمل الإنسان والأرض والتاريخ والثقافة خاصة الفن والشعر الذي يكاد يحتويك كلما أمعنت النظر وأطلته باتجاه إحدي قطع السجاد الإيراني حيث يتعانق الجمال والروعة مع التعقيد والألغاز. هكذا تبدو الأشياء في إيران, الحياة والناس والأشجار والورود والعطور وأيضا الحرب والسلام وبينهما الدبلوماسية وهيمنة عقلية البازار علي كل شيء, حتي الحرب والسلام والدبلوماسية, إذا استطعت أن تفهم وأن تعرف كيف يدير البازار الإيراني نفسه وكيف يدير لعبة السياسة وكيف أنه علي رأس إدارة تلك الصياغة المحكمة للعلاقة بين الشخصية الوطنية والمذهب الإمامي الأثني عشري( الشيعي), عندها يمكن فك شفرة ألغاز الحرب والسلام التي تدور معركتها الآن حول إيران. إذ لم يحدث أن تساوت, لدرجة التطابق, فرص واحتمالات الحرب مع فرص واحتمالات السلام مع أي دولة في العالم أو أي أزمة في العالم, كما هي الآن مع إيران وأزمتها النووية, وكاذب من في مقدوره أن يقول عن يقين إن الأزمة العنيفة المثارة الآن ضد البرنامج النووي الإيراني سوف يحسم أمرها خلال الشهور الستة القادمة سلما أم حربا, حيث تتساوي فرص الحرب مع فرص السلام وحيث تسابق فرص الحرب فرص السلام, وهي الشهور الستة المتبقية من حكم الرئيس جورج بوش الذي لن يجرؤ أي رئيس أمريكي آخر بعده علي اتخاذ قرار بالحرب ضد إيران إذا لم يتخذ هو هذا القرار بناء علي الخبرة الأمريكية في الحرب ضد العراق. فمنذ أسابيع قليلة حاول زبيجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس جيمي كارتر, وهو يعد وبجدارة من أهم مرتكزات العقل الاستراتيجي الأمريكي, أن يخرج عن المألوف وأن يبحر في أمواج أزمة العلاقات الأمريكيةالإيرانية في محاولة للوصول إلي طوق نجاة لبلاده في إدارة هذه العلاقات, لكنه في النهاية لم يستطع إلا أن يتهم سياسة بلاده بالفشل تجاه إيران لاعتمادها سياسة العصا والجزرة مؤكدا أن هذه السياسة فاشلة ولاتصلح سوي للحمير وستؤدي بالتأكيد إلي تحول الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلي دولة نووية, واقترح علي واشنطن أن تبادر بالتفاوض مع إيران, وأن تستعيد التحالف معها إلي عهده السابق وقت أن كانت إيران تقوم في ظل حكم الشاه بدور شرطي الخليج لخدمة المصالح الأمريكية عبر تبني ماأسماه ب سياسة واقعية نحو إيران, حيث إن توجيه ضربة أمريكية جوية إلي المنشآت النووية الإيرانية أو ضربة إسرائيلية أقل فاعلية لن يقوم سوي بتأخير برنامج إيران النووي. وفي كلتا الحالتين, ستحمل الولاياتالمتحدة المسئولية وسيتعين عليها أن تدفع الثمن, ابتداء من زعزعة الاستقرار الإقليمي, وتعطيل تدفق النفط, ومن ثم رفع أسعاره إلي مستويات جنونية, ناهيك عن مخاطر رد الفعل العسكري الإيراني ضد المصالح الأمريكية وضد إسرائيل, والأهم, وهذا هو الخطر الأكبر أن تتحول إيران بالفعل, بعد ذلك إلي قوة عسكرية نووية. البديل لهذا كله عند بريجنسكي هو ماأسماه ب السياسة الواقعية للتفاوض مع إيران علي قاعدة لاشروط مسبقة, أو علي قاعدة الإرادة الإيرانية لوقف تخصيب اليورانيوم مقابل وقف أمريكي متزامن للعقوبات الاقتصادية والمالية, والانطلاق منها نحو تسوية تضمن تلبية رغبة إيران في حيازة برنامج للطاقة النووية مع تقليص احتمال تحوله السريع إلي برنامج للأسلحة النووية. هذا البديل يبدو أنه لقي استحسانا لدي الدول الخمس الكبري دائمة العضوية في مجلس الأمن, بما فيها الولاياتالمتحدة, إضافة إلي ألمانيا أي مجموعة5+1 التي بادرت بصياغة ما سمي ب حزمة الحوافز السخية التي حملها خافيير سولانا منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي مع خمسة من كبار المسئولين في وزارات الخارجية بدول المجموعة باستثناء الخارجية الأمريكية, لكنه, وهذا هو الأهم, حمل رسالة موقعة من وزراء خارجية الدول الست مجموعة5+1) بمن فيهم كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية تعرض علي إيران مجرد تعليق, وليس وقف عمليات تخصيب اليورانيوم لمدة محددة لاتزيد علي ستة أشهر مقابل عروض سخية نووية واقتصادية ومالية والأهم, العروض الأمنية وتمكين إيران من القيام بدور بارز باعتراف الدول الست في الشئون الإقليمية خاصة الشئون الأمنية وبتحديد أكثر في الخليج والعراق وأفغانستان, مع رفع اسم إيران من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومن محور الشر. وجاء الحديث الأمريكي عن احتمال فتح مفوضية أو مكتب لرعاية المصالح الأمريكية في إيران ليزيد من أفق الحل الدبلوماسي وبالذات بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي للمرة الأولي في جولته الأوروبية الأخيرة أن من حق إيران امتلاك برنامج نووي سلمي. هذا التوجه كاد يحسم الأمر ويعلي من شأن فرص الحل السلمي خصوصا بعد أن نوهت إيران إلي أهمية التفاوض مع مجموعة5+1 حول رزمة الحوافز التي حملها سولانا إلي طهران ولكن مع التفاوض إيضا حول العرض الإيراني الذي قدم إلي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأهم مافيه طرح فكرة تأسيس كونسيرتيوم عالمي يقوم بتخصيب اليورانيوم في إيران بمشاركة إيرانية لصالح المنشآت والمفاعلات النووية الإيرانية, بدلا من فكرة وقف إيران للتخصيب مع تأمين احتياجاتها من اليورانيوم المخصب( الوقود النووي) من الخارج. هذا الموقف يعني أن إيران لم ترفض العرض الجديد, لكنها لم تقبله أيضا, واكتفت بطرح فكرة التفاوض, وربما يكون ذلك الموقف هو الذي دفع دول الاتحاد الأوروبي إلي التسرع بإعلان فرض عقوبات اقتصادية جديدة متشددة ضد إيران. عودة جديدة إذن لسياسة الجزرة والعصا التي حذر منها بريجنسكي, لكن الأسوأ هو عودة فرض الحل العسكري مجددا من خلال أنشطة ومناورات عسكرية إسرائيلية وتهديدات شديدة اللهجة بشن الحرب ضد إيران علي لسان كبار المسئولين الإسرائيليين باعتبارها الملاذ الأخير إلي حد تعبير عنوان دراسة أعدها مؤخرا معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني القريب جدا من إدارة بوش ومن إسرائيل, استهدفت إقناع الإدارة الأمريكية بشن الحرب كخيار ليس له بديل الآن في التعامل مع البرنامج النووي الإيراني, لكن التهديد الأبرز جاء علي لسان جون بولتون المندوب الأمريكي السابق في مجلس الأمن والقريب جدا من دوائر صنع القرار في تل أبيب, حيث أكد نية إسرائيل شن الحرب ضد إيران في الفترة التي تلي انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد أي منتصف نوفمبر القادم وحتي موعد تسلم الرئيس الجديد مهامه الدستورية من الرئيس جورج بوش في منتصف يناير القادم. وهي الفترة الحرجة في رئاسة جورج بوش بعد أن يطمئن إلي نتائج الانتخابات الرئاسية. الفكرة الجوهرية في هذا الاحتمال هي أن إسرائيل التي لاتتحمل وجود دولة نووية أخري في المنطقة لن تقبل بتمكين إيران من امتلاك قدرات نووية سواء كانت عسكرية أو حتي مدنية علي أساس أن المدني سرعان مايتحول إلي عسكري كما يؤكد شمعون بيريز رئيس الدولة الإسرائيلية إذا توافرت الشروط السياسية, ولذلك فإنها ستدفع بالحل العسكري لعدم ثقتها بأن تحقق العقوبات الاقتصادية الأهداف المرجوة, وهي أمام أحد احتمالين: إما أن تقنع الولاياتالمتحدة بالقيام بالمهمة نظرا لعدم قدرة إسرائيل علي القيام بها بالشكل الذي يؤمن النجاح الكامل, وإما أن تقوم هي بها أولا علي أمل توريط الولاياتالمتحدة في هذه الحرب عند تعرضها( إسرائيل) لأول رد فعل عسكري إيراني. هذا يعني أن الخيارات الإسرائيلية محصورة الآن أولا, في توريط الولاياتالمتحدة في الحرب ضد إيران سواء كان التوريط كاملا أي أن تشارك الولاياتالمتحدة مع إسرائيل في شن الحرب ضد إيران, أو كان تاليا لتعرض إسرائيل لرد الفعل العسكري الإيراني, وثانيا, أن تخوض وهي حدها الحرب ليس بهدف التدمير الكامل للبرنامج النووي الإيراني لأنها لاتقدر علي ذلك, ولكن بهدف مجرد أعطائه, أي عرقلة تقدمه لعدد من السنوات القادمة. هذه الخيارات الإسرائيلية قد لاتري النور وأن تبقي محصورة في نطاق الحرب النفسية للضغط علي إيران من أجل تليين موقفها, لأن ثمن الحرب علي إيران هو الوجود الاسرائيلي ذاته. مأزق أقرب إلي اللغز وهذا ماأرادته إيران بل ماصنعته إيران عندما قررت أن تمتلك برنامجا نوويا وأن تكفل له, في اللحظة ذاتها, القوة القادرة علي حمايته وعندما تسلحت ب القانون لتوفير الحماية الأخلاقية لمشروعها واستطاعات أن تحتوي فرص الحرب بتعزيز فرص السلام بامتلاك القدرة علي الحرب, وفي النهاية سيكون لإيران ماأرادت: أن تصبح قوة نووية بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات قد تبدو إيجابية للبعض وأن تبدو سلبية للبعض الآخر لتكتمل ألغاز إيران. عن صحيفة الاهرام المصرية 5/7/2008