لم هذا المصير الأسود للديمقراطية! صلاح الدين حافظ أسمع أسوأ ولا أسخف من تلك النكتة التي أطلقها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأسبوع الماضي, حين قال إنني أسعي وأريد عراقا ديمقراطيا علي غرار إسرائيل!! وسخافة النكتة تعود أولا إلي أن قائلها هو بوش الموروط عسكريا في العراق, وتعود ثانيا إلي إيحائها بأن العراق قد استقر, في نظر بوش, وها هو يبني نموذجا ديمقراطيا جديدا, ثم تعود ثالثا إلي أن الرئيس الأمريكي لم يجد في جعبته سوي النموذج الديمقراطي الإسرائيلي ليتطلع إليه, ويتخذه نموذجا ومنهاجا ونبراسا...وهو النموذج الاستعماري الكلاسيكي!!. أما سوء النكتة, فيكمن في أن الرئيس المبعوث رسولا للديمقراطية, يريد منا نحن باقي الدول العربية, أن نتعلم من التجربة الديمقراطية العراقية, لنقلدها ونحاكيها ونسير علي خطاها, إن كنا قد فشلنا في محاكاة النموذج الإسرائيلي!! ولكي نثبت أن النكتة سخيفة وسيئة معني ومبني, علينا أن نعيد تقليب الأوراق وترتيب الأحداث, لندرك هل نجح الرئيس الوكيل الحصري للتبشير بالديمقراطية في المنطقة, في بناء نموذج ديمقراطي يحتذي في العراق, ويحاكي بالتالي النموذج الديمقراطي الإسرائيلي, أم أن الورطة التي أثبتت الخيبة, هي المحصلة النهائية حتي الآن علي الأقل. كان هدف الإطاحة بالنظام الديكتاتوري لصدام حسين, وإقامة بديل ديمقراطي في العراق, أحد ثلاثة أهداف استراتيجية, أعلنها الرئيس بوش في بدايات عام2003 تمهيدا لغزو العراق واحتلاله, ابتداء من مارس من العام المذكور... والثابت حتي الآن أنه نجح في تحقيق الجزء الأول من الهدف وهو إطاحة صدام حسين وحكمه, ولم يستطع أن يحقق الجزء الثاني, وهو إقامة نظام ديمقراطي بديل, لأن الاحتلال الأمريكي بعد أن دمر البلد قد أوجد مقاومة مسلحة عنيفة, وأيقظ كل المشاعر الوطنية في الشعب العراقي, باستثناء جماعات المتأمركين والمستفيدين.. يتفاخر صناع السياسة الأمريكية الآن, أنهم أقاموا حكما ديمقراطيا في العراق لأول مرة, ولا أدري كيف ومتي تم ذلك... نعرف أن انتخابات عامة قد جرت وأن برلمانا قد تم انتخابه, وأن حكومة تشكلت من قوي الأغلبية.. مما يوحي للوهلة الأولي, ولمن لا يتعمق في قراءة الوقائع, أن هناك بالفعل حكما ديمقراطيا يسيطر علي العراق من شماله إلي جنوبه, ومن شرقه لغربه... غير أن الوقائع تقول غير هذا, بداية بأن الانتخابات قد تمت تحت الاحتلال الأجنبي, مما يفقدها الشرعية أساسا, وأن هذه الانتخابات أفرزت برلمانا وحكومة طائفية, يرتكز كلاهما علي التوزيع الطائفي والعرقي من( سنة وشيعة وأكراد وتركمان وآشوريين...الخ) ترسيخا لتفكيك الوحدة الوطنية.. وها هي الحكومة تمارس حكما طائفيا بوضوح, وتدفع سياستها إلي تقسيم الوطن العراقي إلي شمال كردي وجنوب ووسط شيعي وجزء من الوسط والغرب سني التوجه والمذهب, وهي في الواقع حكومة تحتمي مع البرلمان في المنطقة الخضراء بقلب بغداد المحمية بالقوات الأمريكية, بينما الأمن وشئونه في مجمل البلاد, لايزال في أيدي قوات الاحتلال.. والمعني الذي نريد أن نبرهن علي وضوحه, هو أن العراق يفتقد شرعية الاستقلال والسيادة الوطنية, وتفتقد مؤسساته الرئيسية خصوصا البرلمان والأحزاب والحكومة والأمن والجيش الشرعية الوطنية, الأرض ممزقة تحت التقسيم الطائفي والعرقي, والدولة غائبة تفتقد السيادة بالمعني القانوني, والشعب ممزق بين القتل والقتال, والدولة المتحالفة مع الاحتلال لا تستطيع حماية أحد, وأكثر من خمسة ملايين هاجروا للخارج عبر الحدود, مع مليونين آخرين هجروا في الداخل, في ظل التطهير الطائفي والمذهبي الجاري علي قدم وساق... فأي نموذج للديمقراطية هذا يبنيه الرئيس بوش في العراق, بل أي مستقبل لمثل هذه الديمقراطية, إذا كان بوش لايزال غارقا في المستنقع الدموي العراقي دون بادرة لنهاية مشرفة له, فضلا عن أي إشارة للانتصار وإن طال الزمن... قبيل أيام من انتخابات الكونجرس في نوفمبر من عام2006, كان بوش يردد كمن يهذي بأن أمريكا ربحت الحرب ضد الإرهاب وحققت انتصارا واضحا في العراق... وما ان قلبت نتائج تلك الانتخابات كل الموازين بفوز كاسح للحزب الديمقراطي خصم الرئيس بوش وحزبه الجمهوري, حتي عاد بوش وانقلب علي قوله الأول, فأعلن في حوار شهير أجرته معه جريدة واشنطن بوست في20 ديسمبر الماضي, أننا لا نكسب الحرب في العراق, ولكننا لا نخسرها!! هذا إذن اعتراف أمريكي صريح بفشل150 ألف جندي أمريكي في كسب الحرب في العراق, فشل عسكري يؤدي بالضرورة إلي فشل سياسي, وإن كان قد حقق نجاحا اقتصاديا عبر سرقة واحتكار الثروة النفطية العراقية الهائلة.. فإن لم تحقق الترسانة العسكرية الأمريكية الهائلة أي انتصار حتي العام الرابع لاحتلال العراق, وتضمن الأمن والاستقرار في البلاد علي الأقل, فكيف للإدارة السياسية الأمريكية أن تحقق نجاحا في بناء نموذج ديمقراطي, أو علي الأقل وضع بذوره الأولي في التربة العراقية... والديمقراطية كما نعلم عملية سياسية اجتماعية ثقافية طويلة المدي! يتصور المحيطون بالرئيس بوش, من بقايا عصابة المحافظين الجدد المهزومة, أن إجراء انتخابات وتشكيل برلمان وحكومة في العراق, دليل واضح وبرهان ساطع علي بناء ديمقراطية, وهذا وهم وتدليس سياسي من الدرجة الأولي, يحاولون به اقناع الرأي العام الأمريكي أولا, بنجاح سياستهم في ترويج القيم الديمقراطية الأمريكية وزرعها في العراق, ليكون نموذجا جاذبا لباقي الدول العربية... وهنا تدخل حكاية السير علي خطي الديمقراطية في إسرائيل, التي يحلم بها الرئيس بوش مبشرا وهاديا ومتعبدا في محرابها, إنه يخاطب المشاعر والعواطف الأمريكية لتسانده وتدعمه, حين يذكرها بالنموذج الديمقراطي الإسرائيلي, الذي نجحت القوة اليهودية بأذرعها ومنظماتها الصهيونية, في زرعه في الوجدان الشعبي الأمريكي, واقناع قطاعات واسعة من الرأي العام, بأن قيام دولة إسرائيل تمهيد لعودة المسيح عليه السلام وشرط من شروط قيامته, وبأن إسرائيل تحاكي النموذج الأمريكي تمام المحاكاة, من حيث النشأة والتأسيس والهجرة والقيم والثقافة والتقاليد, وكذلك النموذج الديمقراطي.. معظم الرأي العام الأمريكي, نشأ وتعلم وتثقف, علي هذه المشاعر والمواقف تجاه إسرائيل, فهي جزء من كبد أمريكا وعين لها في قلب الشرق الأوسط, الذي هو قلب العالم ومخزنه النفطي, نموذج ديمقراطي يكرر ويحاكي النموذج الأمريكي حين كان حلما يتوبيا مثاليا يهيم في خيال المهاجرين الأوائل, وهم يحتلون الأرض الجنة الجديدة, ويقيمون المستوطنات المستعمرات, ويقاتلون أهل البلاد الأصليين ويبيدونهم, من أجل بناء الجنة الموعودة!!! وما فعله المهاجرون الأوروبيون في أمريكا, فعله المهاجرون اليهود في فلسطين, باسم الحلم الصهيوني في أرض الميعاد.. بوش حين قال الأسبوع الماضي إنه يسعي لبناء عراق ديمقراطي علي غرار النموذج الديمقراطي الإسرائيلي, كان يخاطب العواطف الأمريكية دون أن يجرؤ علي مخاطبة العقول الأمريكية, لأن هذه تدرك حجم الورطة العسكرية الدامية في العراق, ومدي خسائرها بل وعمق تأثيراتها علي مستقبل الحياة السياسية في أمريكا ذاتها... حين تضطر صاغرة للانسحاب في نهاية المطاف, بلا حرب انتصرت وبلا ديمقراطية زرعت! حكم التاريخ حتما سيجري علي الاحتلال الأمريكي للعراق, كما جري علي احتلال الامبراطوريات الاستعمارية الغربية القديمة, التي انسحبت صاغرة واستقلت الشعوب والدول التي خضعت زمنا للغزو والاحتلال... وحينئذ سترتد النتائج العكسية علي أمريكا في الداخل, لتحاسب نفسها كما سبق لها أن فعلت بعد حربها المريرة في فيتنام وكوريا وغيرها من حروب الغزوات الخارجية... لكن تبقي المأساة متحكمة في تفكير الرئيس بوش, مستحكمة في سياساته الفاشلة, سواء في الحرب أو في نشر الديمقراطية, بعنجهية القوة المسلحة المغرورة الباطشة الطائشة, والخشية أن يستغل ما تبقي له في عرش الرئاسة من شهور قليلة, ليتوهم إقامة نموذج ديمقراطي آخر غير نموذج العراق, وعلي غرار النموذج الإسرائيلي, الذي لم يعد في العالم من هو أسوأ منه عدوانية وتعصبا ومعاداة لكل معاني الديمقراطية, والدليل الحي هو ما يفعله الآن ضد الفلسطينيين! أما المأساة الأكبر والأفدح, فهي أن البعض منا منهم لايزال يأمل خيرا, في وعود الرئيس بوش وتعهداته, بإقامة ديمقراطية في بلادنا... علي غرار النموذج العراقي الدامي والنموذج الإسرائيلي المدمي!! إن كانت حرب بوش مغامرة, فديمقراطية بوش مقامرة, والرهان عليهما خاسر من البداية للنهاية يا أولي الألباب... خير الكلام : يقول الشاعر أحمد فتحي: يا تري ما تقول روحك بعدي بابتعادي وكبريائي وسهدي عن صحيفة الاهرام المصرية 4/7/2007