صدق تقرير مجموعة الأزمات الدولية الأخير حين قال: إن العراق الآن يسير باتجاه دولة فاشلة يديرها جنرالات حرب وميليشيات وسياسيون فاشلون, حيث لا تتمتع الحكومة المركزية بهيمنة علي أي مكان خارج بغداد, وربما حتي خارج المنطقة الخضراء. وبهذه الوضعية الخائرة والسلطات المغلوبة علي أمرها يخوض المفاوض العراقي مع مطلع العام الجديد أهم مفاوضات سياسية في تاريخ البلاد الحديث, لوضع النقاط فوق الحروف وتفعيل المعاهدة الأمنية مع الولاياتالمتحدة التي سطر الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أحرفها الأولي أخيرا, لتبارك وجودا عسكريا دائما للقوات الأمريكية في الأراضي العراقية, وبرغم محاولة الحكومة العراقية إبراء ذمتها من شبهة تسليم البلاد للاحتلال الدائم طواعية, والتظاهر بالحفاظ علي السيادة الوطنية الكاملة وهو ما تم استنباطه من التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية العراقية هوشيار زيباري, فإنه من المؤكد أن المحادثات الأمنية التي ستبدأ في يناير المقبل وتنتهي في يوليو, سوف تقنن وجودا عسكريا أمريكيا دائما علي الأراضي العراقية يتمتع بغطاء شرعي من برلمانيي البلدين ومن مجلس الأمن الدولي, مع انتهاء التفويض الممنوح للقوات الدولية التي تقودها الولاياتالمتحدة في العراق العام المقبل. وبعيدا عن تقويم وتوصيف بعض الخبراء لمثل هذه المعاهدة الأمنية المرتقبة, بأنها تتجاوز صيغة الاحتلال لتصل الي مرتبة وضع دولة تحت الانتداب, نجد أنه من المهين التلاعب بمشاعر الشعوب والضحك علي الذقون بالقول بأن السماح بقوات أجنبية دائمة لأغراض دفاعية لا تنتهك السيادة الوطنية. فمن السهولة بمكان ومن واقع تجارب الخضوع للاحتلال في وطننا العربي أو في أي بقعة بالعالم رزحت تحت نير المحتل, يمكن استقراء حصول القوات الأمريكية علي تفويض شرعي بالتدخل في شئون العراق الداخلية وتوجيه سياستها الخارجية والعسكرية والسيطرة علي مقدراتها البترولية والحصول علي وضعية الأفضلية للاستثمار بالنسبة للشركات الأمريكية. ويعني إقرار مثل هذه المعاهدة التخلي طواعية عن تشكيل جيش عراقي موحد لطالما كان حلما في مواجهة دعاة التقسيم, واستبدالها بقوات أمريكية تتمركز في أكثر من25 قاعدة عسكرية, اقيمت في أنحاء البلاد بعد الغزو, تتولي حماية الحكومة المركزية من جموح الميليشيات والجماعات الطائفية, ومن الأطماع القادمة من وراء الحدود. والواقع أن إدارة بوش نجحت في التمهيد والتخطيط والاستعداد لبعث الحياة الي مثل تلك المعاهدة الأمنية, بعد أن أثبت التقويم الجيواستراتيجي, أن العراق هي القاعدة الأمريكية الأمثل في المنطقة في ظل الخطر الذي يداهم القواعد الأخري بالخليج العربي. وجاء تقرير القائد الأعلي للقوات الأمريكية في العراق الجنرال ديفيد بيترا يوس بمثابة طوق النجاة لإدارة بوش لانهاضها من عثرتها هناك وليمهد المسرح لربط أمريكا والعراق بما يشبه الزواج الكاثوليكي حين أوصي بضرورة تمديد بقاء القوات الأمريكية في العراق لأجل غير مسمي. فقد حاول تقرير بيترايوس الذي جاء في هوجة تقارير أمريكية حول تقويم الوضع بالعراق بدأت بتقرير بيكر هاملتون, تبييض وجه قرار بوش زيادة القوات الأمريكية هناك لخفض مستوي العنف بالرغم من تبشيره للناخبين الأمريكيين ببدء سحب قواته من العراق في يوليو المقبل في محاولة لإرضاء الديمقراطيين الناقمين علي سياساته. لكن بدا موقف الديمقراطيين في الكونجرس مائعا, فعلي الرغم من رفضهم وجودا أمريكيا دائما بالعراق, وانتقادهم تقرير بيترايوس بأنه لا يحمل جديدا, ولم يوضح السبل التي يمكن من خلالها تحقيق مصالحة عراقية حقيقية, إلا أنه من الواضح أن الديمقراطيين يدخرون شيئا ما لما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة, خاصة مع يقينهم بأن أمريكا خسرت الحرب وإلا فما معني موافقتهم علي ميزانية إضافية للحرب وتخليهم عن المساومة بربط إقرارها بوضع جدول زمني لانسحاب نهائي من العراق.