للناشر العربي سلطة فعلية ومعنوية مؤثرة علي جمهور الكتاب والقراء معا، وعبر هذه السلطة يمكنه أن يلعب دوراً كبيراً علي مسار الحركة الثقافية/ القرائية في بلداننا العربية، وباتجاهين: أما أن يتولي ترويج ثقافة إنسانية مبدعة تقف إلي جانب الإنسان العربي وتعيد صياغة علاقته بالكتاب الجيد والممتع، وصولاً إلي مستوي سويٍّ من إدراك حقائق الواقع وأوهامه، وكشوفات مستور طبقات السلوك وطرائق سيرورة العلاقات العامة فيه، أو تقف ضد هذا الإنسان في زيادة تكبيله والإمعان في قهره عبر محاصرته بكتب ومطبوعات رديئة الشكل والمضمون، لا تكشف ما حوله ولا تسهم بنقطة ضوء علي دروبه المظلمة. يمكن للناشر العربي أن يسهم، إلي جانب هذا، بخلق حركة نقدية مؤثرة وفاعلة من خلال دوره النقدي، هو، عندما يضع سياسة ثقافية واضحة ذات مسار ثقافي/ قرائي يتجه صعوداً بأذواق القراء والكتاب معاً، باعتباره من يختار الكتاب الجيد الجدير بالنشر والترويج، وفي ساحتنا الثقافية/ النشرية دور نشر تحترم نفسها، أولاً، ثم قراءها، ثانياً، لأنها تحترم الكتاب الذين تختارهم وتوافق علي طبع كتبهم ونشرها. لقد أسهمت دور نشر عربية مرموقة، عبر تاريخ ثقافتنا العربية، في إشاعة روح الإبداع والبحث العلمي والتنوير الفكري وعرفتنا، كتاباً وقراء، بأروع نتاجات الأدب الأجنبي، ومن مختلف القارات، التي هذبت لغتنا القرائية وأسلوب خياراتنا الإبداعية، في الرواية والشعر والمسرح والفن التشكيلي وسائر الفنون التي وصلتنا عبر الكتب المطبوعة، في السينما والموسيقي. ليس من السهل تعداد أسماء دور النشر العربية هذه، كي لا يجحف النسيان والسهو بحق إحداها أو بعضها، لكنها معروفة ومشهود لها بتثقيفنا عبر الحقب المتعاقبة من ثقافتنا العربية. غير أن المؤسف، أن ثمة دور نشر تكاد تختص بالجانب الربحي المحدود من سياستها النشرية، حتي أن بعضا من دور النشر المرموقة انحدرت وتراجعت عن منطلقاتها التي بدأت بها فور تشكيلها وصارت تطبع وتنشر وفق ما يدفع لها من مال يسخو به أصحاب الكتب الرديئة، فتخلت هذه الدور عن ذلك الدور الذي شهدناه لها بداية تأسيسها. علي ثمة دور أخري، إلي جانب التي تراجعت، تكاد تختص بالنصب والاحتيال، فتسوف مع كتابها وتطلق وعودها ولا تفي بها وتبتكر أغرب الوسائل للضحك علي الكاتب الذي وثق بها ووافق علي شروطها فانتظر كتابه الذي لم يأته بعد شهور مديدة من الانتظار! أكثر ضحايا هذه الدور هم الكتاب والأدباء الشبان الذين يتشبثون بأوهي أسباب الأمل والحلم بنشر نتاجاتهم ورؤية ثمرات أخيلتهم وعقولهم مطبوعة بين دفتي كتاب. .. وبدلاً من أن يحظي الكتاب الشباب بأكبر العناية والدعم المنتظرين من المؤسسة النشرية، باعتبارها الحاضنة والمروجة للكتاب، والأكثر نشاطاً وانتشاراً قياساً بالمؤسسة الرسمية (وزارات ومديريات ودوائر مرتبطة بالنظام الثقافي الرسمي) التي يخنقها الروتين والرقابة والتدخل، فإن كتابنا الشباب هم أكثر من يدفع من ثمن جراء سياسات دور النشر التي تستغل حماسهم وضعف خبرتهم وإقبالهم علي النشر بشروط حتي لو كانت مجحفة. لم يتبق سوي أن نأمل بسياسة نشر عربية جديرة بطموحاتنا الثقافية، توفر التنوع الفكري وتبتعد عن آيديولوجيا الحذف، وتتيح مساحات للتعايش والحوار والجدل، من خلال مساحات معقولة لحرية الاختيار.. اختيار الكتاب الذي يلبي حاجات القارئ المتطلع للتغيير والجمال. ** منشور بصحيفة "الزمان" العراقية 5 أكتوبر 2009