فهمي هويدي من الأسماء المعروفة في سماء الفكر والصحافة العربية، من القلة ذوات الأقلام الصادقة القريبة من الجماهير، التي لا تكتفي بلعب دور صدى الصوت لمسئولي ورجالات الدولة، لهذا فقد استحق عن جدارة المصداقية التي ارتبطت بقلمه. وحينما نشر مجموعة مقالاته التي كان يكتبها بشكل إسبوعي في جريدتي الأهرام والوفد اختار لها اسم "خيولنا التي لا تصهل" وهو اسم أحد مقالاته التي قال في نهايتها: "حين يقرأ المرء هذا الكلام, ثم يتلفت حوله في مصر فيجد سطح المجتمع هادئاً بأكثر من اللازم حتى ومضات التحرك المتواضع التي تلوح في الأفق بين الحين والآخر فإنها ما أن تظهر حتي تخبو وتختفي، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات حول مدى هشاشة المجتمع وتدجين مؤسساته وعجز نخبته، وحول ما إذا كان ذلك الهدوء ابتلاعاً للأحداث الجسام التي تجري أم أنه اختزان لها، لكني لا أخفي أن المشهد ذكرني بالمثل البدوي الذي يقول أن الخيول المخصية لا تصهل، الأمر الذي دفعني إلى التساؤل : هل يصلح هذا المثل لتفسير الركود البادي في مصر ؟ " الخيول التي لا تصهل هو اسم جامع يمكن إطلاقه على جمع مقالات فهمي هويدي، لهذا استحق أن يكون عنواناً للكتاب، فمن صمت الشارع المصري إلى صمت الشارع العربي إلى صمت الشارع الدولي على كثير من الانتهاكات والتجاوزات الصارخة يجعل من الجميع خيولاً لا تصهل !. عنوان الكتاب الفرعي الذي يصف العنوان الأساسي هو "مقالات في السياسة والتياسة"، فمقالات فهمي هويدي تناقش الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية التي أثيرت على الساحة على مدار الأعوام السابقة، مقسمة على ثلاثة أقسام رئيسية: بين الأوهام والحقائق، خائفون لا أقوياء، وخيولنا التي لا تصهل. فعن قضية الديموقراطية يقول فهمي هويدي في لهجة أقرب إلى الغيظ في مقال "كي يقام العرس الديموقراطي حقا" ً: "تساورني شكوك كثيرة فيمن يقولون لنا إن شعوبنا ليست مؤهلة للديمقراطية، وكأنها أقل شأناً من شعوب أخرى مثل جورجيا وأوكرانيا ورومانيا، بالتالي فينبغي أن تتلقى "جرعاتها" على مهل، وعلى فترات محسوبة بدقة. ذلك أنني لا أعرف كيف يمكن قياس حالة "القابلية للديمقراطية" عند الناس. وما مؤهلات أو شرعية الذين يفتون في الأمر على ذلك النحو؟ ومن الذين نصَّبهم وكلاء وأوصياء على الممارسة الديمقراطية؟ وما المعايير التي يعتمدونها سواء في تحديد حجم وطبيعة "الجرعات"، أو في تقدير الفترات التي ينبغي أن تمر بين جرعة وأخرى؟". فهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على تطبيق الديموقراطية في بلادنا لا يسعون حقيقة للديموقراطية وإنما يسعون وراء مصالحهم الخاصة وإطالة عمر أنظمتهم الظالمة، لأنه في حالة تطبيق الديموقراطية الحقيقية فإنهم بالتأكيد سيغادرون مقاعدهم بلا رجعة، ومصر بالذات لا تحتاج للمزايدة عليها في قضية الديموقراطية لأنها أول بلد في المنطقة قام فيه مجلس شورى نواب سنة 1866، أي في القرن التاسع عشر !. وفي مقاله "لماذا يطالب الجوهري وحده بالاستقالة؟" يناقش نفس القضية، فبعد هزيمة المنتخب المصري في إحدى مبارياته طالب البعض الجوهري مدرب المنتخب السابق بالاستقالة، لكن فهمي هويدي يرى أن الجوهري ليس وحده المطالب بالاستقالة، فإذا كان مدرب المنتخب المصري قد فشل في مباراة كرة قدم فهناك الكثير من المسئولين والوزراء قد فشلوا في مجالات اقتصادية وسياسية وتعليمية وصناعية وزراعية أودت بالبلد في هوة سحيقة !. وفي مقاله "فضيحة ثقافية" يندد هويدي بالعرس الثقافي الذي نادى به وزير الثقافة فاروق حسني احتفالاً بمرور مائتي عام على الحملة الفرنسية في مصر، فالمنادون بهذا الاحتفال يرون أن الحملة الفرنسية كانت بداية النهضة في مصر الحديثة، بينما يرى فهمي هويدي أنها كانت احتلالاً لمصر، بدليل أننا لو سألنا أي طالب في المرحلة الاعدادية عن سنة 1798 في مصر فسيخبرك على الفور أنه عام الاحتلال الفرنسي لمصر بقيادة بونابارت، والذي لاقى مقاومة شعبية كاسحة، فكيف نحتفل بها ؟. وفي مجال الإعلام يعقد فهمي هويدي في أحد مقالاته مقارنة بين التناول الإعلامي لمصرع دودي الفايد واستشهاد هادي حسن نصر الله، فالحادثة الأولى لاقت اهتماماً إعلامياً واسعاً على مدى شهور، رغم أن الصورة الموجودة في الأذهان لدودي الفايد أنه شاب منعم ابن ثري مصري يعيش في بريطانيا عرفه الناس كعاشق للأميرة ديانا، بينما هادي هو ابن أحد كبار المجاهدين، ولقى حتفه شهيداً وهو يدافع عن قضية عادلة، ولم يهتم الإعلام باستشهاده، فما هو النموذج الذي يسعى الإعلام لتقديمه للشباب، نموذج الفتى المجاهد المناضل الذي يلقى مصرعه على أرض الجهاد من أجل قضيته التي يؤمن بها، أم نموذج الشاب الثري المنعم الوسيم الذي تعشقه النساء ويلقى مصرعه في حادث غامض نتيجة هذا العشق ؟ وعن التحالف الدولي الذي قادته أمريكا ضد الإرهاب وبدأ باحتلال أفغانستان، يتكلم فهمي هويدي في أحد مقالاته عن استجواب المخابرات الأمريكية لسبعة آلاف أسير من أسرى حرب أفغانستان، منهم عرب. ويركز في المقال على أسير كويتي في الخامسة عشر من عمره، سافر مع والده إلى أفغانستان مع بداية الحرب لأنهما رأيا أنهما يجب أن يجاهدا في سبيل الله بنصرة المستضعفين، واستشهد الأب وأسر الابن. ويرى هويدي أن هذه القصة تدل على أن ليس كل من كانوا في أفغانستان هم إرهابيون – حسب وجهة النظر الأمريكية – بل هناك عرب ذهبوا هناك احتجاجاً على الظلم والتعدي الأمريكي، ثم يتساءل كالعادة: أين الحكومات ومنظمات حقوق الإنسان العربية مما حدث لأبنائها في أفغانستان وكيف يسكتون على مصير زوجاتهم وبناتهم وأبنائهم, الذين شردتهم الحرب ولاحقتهم المذلة, وتعرض البعض منهم للخطف أو الاغتصاب ؟. وبالنسبة للعنجهية الأمريكية يتكلم هويدي في مقال آخر عن طلب أمريكا من بعض الدول العربية والإسلامية تجفيف منابع الإرهاب عن طريق اختصار ساعات التعليم الديني من عشرين ساعة في الإسبوع إلى أربع ساعات فقط، وأن تنقح تلك المناهج لتدور حول الأمور العبادية فقط، ويستثنى منها الحديث عن الجهاد وجرائم وممارسات بني إسرائيل وغيرها من الأمور التي تضايق السياسة الأمريكية. " ما لفت نظري في المذكرة الأمريكية, أنها لم تكتف بطلب المراجعة والتنقيح فقط بل تعدت هذا المدى إلى ما هو أبعد بكثير, حيث حددت ساعات الدراسة, والإطار الذي ينبغي أن تتم المراجعة في حدوده, حتى يظن المرء أنهم بعد ذلك سيحددون أسماء بذواتها للقيام بمهمة التدريس, ويستبعدون أسماء أخرى, أو أنهم سيطلبون من المدرسين حلق لحاهم, ويفرضون عليهم أزياء معينة !". وفي مقال "خيولنا التي لا تصهل" يناقش "الأفعال السياسية الفاضحة" التي أقدمت عليها الحكومة المصرية مؤخراً، من محاولة العبث بنصوص الدستور ليتماشى مع مصالحها، إلى تقليص دور القضاة الشرفاء وانتهاءً بتحويل بعض قيادات الإخوان المسلمين إلى القضاء العسكري رغم تبرأتهم من خلال القضاء الإداري، ويذكر هويدي ما حدث في باكستان حينما عزل الرئيس الباكستاني رئيس المحكمة الاتحادية العليا فهاج الناس وماجوا وقام سبعة من القضاة بتقديم استقالتهم واعتصم المحامون وخرجت المظاهرات منددة بالقرار، ويقارن بين ما حدث في باكستان من ثورة وحركة وبين الهدوء السائد في مصر، وينتهي بالقول بأن الخيول المخصية لا تصهل، مفسراً بذلك الصمت السائد في مصر. وفي مقال آخر يعود ليتكلم عن نفس ظاهرة الصمت المحيرة تلك، فبعد استعراض الأوضاع الفلسطينية المتدهورة وما تفعله آلة العنف الإسرائيلية من اغتيالات وانتهاكات لحقوق الفلسطينيين، والتأييد الدولي الواسع لهذا الظلم والتبرير له، يقول : "حينما يقرأ المرء هذه التقارير, ويتلفت حوله باحثاً عن صدى ذلك في المنطقة العربية, تفجعه حقيقة الصمت المطبق على جنبات ذلك الشارع, بطوله وعرضه, ولايكاد يرى حضوراً جماهيرياً يذكر إلا في مواكب الجنازات اليومية في الأرض المحتلة. خطورة هذه الظاهرة تكمن أولاً في ذاتها, وكونها تعبر عن واقع بائس, فقدت فيه الجماهير والمنظمات الأهلية القدرة على التعبير عن مجرد الاحتجاج والغضب, ولو بطرق سلمية, في حدود الظاهرة الصوتية، وهو مشهد يذكرنا بحالة الموات التي عاشها سكان بغداد في أواخر العصر العباسي الثاني, حين اجتاحها التتار وقتذاك, وفعلوا الأفاعيل بأهلها, الذين استسلموا على نحو مذهل لكل ما فعل بهم, الأمر الذي صدم ابن الأثير صاحب الكامل في التاريخ وأبكاه, حتى كتب قائلاً إنه تمنى لو أن أمه لم تلده لكي يعيش ذلك اليوم الأسود الذي رأى فيه وقائع تلك المأساة الفظيعة. الوجه الآخر لخطورة الظاهرة يتمثل في أن ذلك السكون المخيم علي الشارع العربي, يوحي للآخرين بأنهم بصدد أمة تبلدت, ومات فيها الشعور والاحساس, ونزعت منها القدرة على الغضب ". أمة تبلدت، أو أمة تحولت لخيول لا تصهل، كلها أوصاف لواقع محزن وأليم أصبح الصمت فيه هو اسم اللعبة.