كانت القيادة التفاوضية لمنظمة التحرير الفلسطينية تصدر مؤخرًا إشارات توحى فى ظاهرها بافتراق عن نهجها السابق، مثل التوجه إلى مجلس الأمن الدولى لكى يقرر فى قضية من قضايا الوضع النهائى المتفق على التفاوض عليها بموجب الاتفاقيات الموقعة بين المفاوض الفلسطينى وبين دولة الاحتلال الإسرائيلى كقضية "الحدود"، ومثل خطة رئيس وزراء سلطة الحكم الذاتى فى رام الله سلام فياض التى أعلنها فى السادس والعشرين من آب / أغسطس الماضى لبناء مؤسسات دولة أمر واقع فلسطينية خلال عامين بمعزل عن المفاوضات وخريطة الطريق واتفاقيات أوسلو، وغير ذلك من المؤشرات التى تدل على التخبط لا على التخطيط، وعلى الاستمرار فى النهج الارتجالى السابق المحكوم بردود الفعل لا على افتراق حقيقى عن هذا النهج. فالمفاوض الفلسطينى لا يمكن أن يكون قد تحول بين ليلة وضحاها من الرهان الكامل على الولاياتالمتحدة إلى البحث عن سند فى المجتمع الدولي، أو انتقل من السعى لإقامة دولة فلسطينية بالاتفاق مع دولة الاحتلال الإسرائيلى إلى السعى لإقامة دولة فلسطينية بالرغم منها، فهذا المفاوض الذى لم يعتد على التحرك من جانب واحد من قبل لا يمكنه ممارسة قرار فلسطينى مستقل فجأة كرد فعل يائس على خذلان حلفائه وشركائه فى "عملية السلام". فهل المفاوض الفلسطينى يوشك حقًا على تغيير نهجه لكى يخاطر بالدخول فى مواجهة مع دولة الاحتلال والوسيط الأميركى والمانح الأوروبى و"معسكر السلام" العربي؟ إن مواجهة كهذه ستكون معركة ضارية، تقتضى أن يكون أى تحرك فى اتجاهها جزءًا من استراتيجية وطنية بديلة لا تشير كل الدلائل إلى وجودها بعد، وتقتضى أن يستند أى تحرك كهذا إلى وحدة وطنية مفقودة حتى الآن، ويقتضى كذلك تحالفات إقليمية ودولية غير تلك التى أسند المفاوض الفلسطينى ظهره إليها لتاريخه، وإلا سيكون هذا الافتراق ظاهريًا وخادعًا، وبالتالى مضللاً للرأى العام الوطنى الفلسطيني. لقد سوغت القيادة التفاوضية تحركها باتجاه مجلس الأمن الدولي- فى محاولة تعرف مسبقًا بأن الفيتو الأميركى أو البريطانى سوف ينقضها ليحكم عليها بالفشل – لاستصدار قرار جديد بشأن "حل الدولتين" بحجة ملء الفراغ السياسى الناجم عن وصول "عملية السلام" إلى الطريق المسدود الذى كان متوقعًا لها منذ إعلان الاستقلال الفلسطينى عام 1988، وكما قال رئيسها محمود عباس: "هل نبقى دون سلام؟ لهذا السبب أقدمت على هذا التحرك". وبما أن هذا التحرك فى حد ذاته هو إعلان صريح عن فشل "عملية السلام" يبدد أى أمل فى أى سلام يمكن أن يتمخض عنها، فإن التفسير الوحيد لهذا التحرك الذى لا يزيد على كونه "لعبًا" فى الوقت الضائع لعملية السلام إنما يستهدف من ناحية خلق وهم بوجود حركة سياسية لدى الرأى العام الوطنى الذى انقشعت عنه كل الأوهام المماثلة- كون"شركاء السلام" الدوليين لا يمكن أن ينخدعوا بأى وهم كهذا وهم أصحاب براءة اختراع وهم "عملية السلام" نفسها- ويستهدف من ناحية ثانية تسويغ بقاء هذه القيادة فى مواقعها بعد أن أصبح التفاوض هو السبب الوحيد لاستمرارها فى هذه المواقع، بالرغم من الفشل الذريع الذى انتهى برنامجها السياسى ونهجها التفاوضى إليه، وهو فشل يستتبع بالضرورة إفساح المجال أمام برنامج وطنى جديد تقوده قيادة جديدة. إن هذه القيادة التى سوغت انفرادها بالقرار الفلسطيني، وسوغت تغييبها حتى للمؤسسات التمثيلية التابعة لها، ناهيك عن تغييبها للحركة الوطنية المعارضة لها، ب"الواقعية السياسية"، تبدو اليوم نموذجًا لانعدام الواقعية السياسية، وهى تتحرك فى اتجاه معاكس للواقع الدولى والإقليمى الذى يتناقض مع تحركها، لا بل إنه يتناقض مع المرجعية الدولية التى تتكرر الإشارة إليها فى الخطاب الرسمى لهذا المفاوض عندما يشير باستمرار إلى قرارى مجلس الأمن الدولى رقمى (242) و(338) اللذين ينصان على حدود آمنة يمكن الدفاع عنها، ومعترف بها لدولة الاحتلال الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، عندما يحذر أحد المهندسين الإسرائيليين لاتفاق أوسلو مثل يوسى بيلين، من أن رئيس وزراء دولة الاحتلال الحالى بنيامين نتنياهو يسعى إلى تصفية ما تبقى من هذا الاتفاق لخلق "فراغ سياسي"، يقود إلى تفكيك السلطة الفلسطينية المنبثقة عنه، ويقول محلل فى الجروزالم بوست (لارى ديرفنر): إن نتنياهو منذ تولى السلطة "قد كنس تسع سنوات من التقدم فى محادثات السلام"، ثم يخرج رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس، ووزير دفاعه إيهود باراك بمشروع يقترحانه على الإدارة الأميركية لإقامة دولة فلسطينية مؤقتة على أقل من نصف مساحة الضفة الغربيةالمحتلة من نهر الأردن، فإن أى مراقب محايد، ناهيك عن الشعب الفلسطيني، لا يسعه إلا التساؤل عن واقعية أى استمرار فلسطينى فى السعى وراء السراب، سواء عبر الأممالمتحدة أم عبر البوابة الأميركية، فتجربة عرب فلسطين مع كلا المعبرين غنية عن البيان. فقد عارض "الشريك الإسرائيلي" توجه المفاوض الفلسطينى نحو مجلس الأمن كذلك فعل راعى السلام الأميركى والاتحاد الأوروبي، فى تأكيد أميركى – أوروبى جديد على أن حدود 1967 ليست هى مرجعية "حل الدولتين"، وبالرغم من إعلان عباس بأن التحرك الفلسطينى نحو مجلس الأمن كان قرارًا عربيًا للجنة متابعة مبادرة السلام العربية، فإن إعلان مصر بأن التوجه إلى مجلس الأمن "ليس بديلاً للمفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل" (حسام زكى الناطق باسم الخارجية المصرية) قد عبر عن الموقف العربى الواقعى الذى ما زال ملتزمًا بالتفاوض. بعد إعلان الاستقلال الفلسطينى فى الجزائر تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة "حل الدولتين" بقرارها رقم (43/177)، وفى سنة 2002 تبنى مجلس الأمن الدولى هذا الحل بقراره رقم (1397)، ثم تبنى فى العام التالى 2003 "خريطة الطريق" التى تنص على هذا الحل بقراره رقم (1515). فما الجديد الذى سيضيفه أى قرار أممى جديد تسعى قيادة التفاوض إلى استصداره بتحركها الأخير نحو مجلس الأمن الدولي؟ فسر رئيس دائرة شئون المفاوضات فى المنظمة صائب عريقات الهدف من التحرك بانتزاع اعتراف أممى بإضافة "حدود" الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967 كحد فاصل بين "الدولتين" المقترحتين، ثم بانتزاع اعتراف أممى بأن حل الدولتين هو الحل "الوحيد" للصراع العربى – الإسرائيلى فى فلسطين. ويكشف تفسير عريقات اعترافًا صريحًا متأخرًا جدًا، وربما بعد فوات الأوان بحقيقة أن قيادة التفاوض الفلسطينى كانت تتفاوض طوال عشرين سنة تقريبًا دون أى التزام مقابل من الاحتلال، أو من "الرعاة" الأميركان وغيرهم لعملية السلام، بأن "حدود عام 1967" هى الأساس لرؤية حل الدولتين، ويكشف خديعة الرأى العام الفلسطينى التى تكررت فى كل خطاب رسمى للمفاوض الفلسطينى بأن المفاوضات كانت تجرى على هذا الأساس- بالرغم من المعارضة الوطنية الواسعة لهذه الصفقة التى كان هذا المفاوض يسوقها بافتراض تبادل فلسطين 1948 بفلسطينالمحتلة عام 1967- ليكشف المفاوض اليوم بأن هذا الافتراض لم يكن صحيحًا، ولم يكن ملزمًا، وبأنه يحاول الآن أن يتدارك ذلك بانتزاع اعتراف أممى بأن هذه هى الصفقة فعلاً.