أمن مصر ووحدتها الوطنية وجهان لعملة واحدة انفض المولد الدامي لاعتصام العباسية، بحفنة جديدة من الضحايا والشهداء والقتلي والمصابين والمعتقلين، فيما تتعالي تحذيرات المراقبين من ردود فعل متباينة لأعمال العنف والعنف المضاد، التى وقعت بين جيش البلطجية من جانب، و"الجهاديين" الموالين للقاعدة، بما ينذر بتطورات بالغة الخطورة على السلام الاجتماعي فى البلاد، خاصة وأن هناك ما يمكن تسميته بالعامل (X) الذي قد لا يفطن إليه الكثيرون، ويتمثل فى أقباط مصر، الذين سبق وهرولو منذ أسابيع قليلة، باتجاه ترشيح "عمر سليمان" قبل استبعاده، على الرغم من كونه منتميا للعهد البائد بكل فساده وجرائمه وعمالته للعدو الصهيو - أميريكي، فقط لمجرد كونه "فزاعة" فى وجه تيارات السياسة المتأسلمة، الساعية لفرض أجندتها الخاصة، عبر استحواذها على مزيد من السلطات يوما بعد الآخر.. فما بالك بموقف تلك الشريحة الكبيرة من النسيج الوطني، جرَّاء مشاهد ومسامع وروايات "الظواهري" وأعوانه المسلحين فى قلب الاعتصام السلفي الأخير..؟؟؟ مابالك، عندما يجد أقباط مصر، بعض من مسلميها يعلنونها صريحة: نحن والقاعدة يد واحدة؟؟؟ ليس السؤال هنا بالطبع، من كان وراء وصول الأمور إلى حد الاعتصام – يأسا – أمام مقر وزارة الدفاع، من جانب فصيل بعينه، عاني كغيره من فصائل المجتمع خلال المرحلة الانتقالية بكل سلبياتها المريرة، إلى حد اللجوء لإحراق الثورة ذاتها، بإفقادها براءتها .. أي سلميتها... ولكن السؤال: ما الذي ترك الأمور لتصل إلى هذا الحافة الحادة ومن ورائها جحيم الفتنة؟ ببساطة أكثر، وربما ببراءة: ماذا كان يضير المجلس الأعلي للقوات المسلحة – القابض على السلطة فى البلاد - لو كان واصل إجراءاته الحاسمة، بعد تنحي الرئيس السابق، وحل البرلمان ووقف العمل بالدستور، بأن أعلن إقالة النائب العام، وأعطي الضوء الأخضر لتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور مصر، ثم أجري انتخابات برلمانية، يليها رئاسية، ومن قبل ذلك كله أقام محكمة ثورية للفصل فى قضايا الفساد والخيانة العظمي للوطن، التى جرت على مدي ثلاثة عقود. وهذه الأخيرة ليست بدعة، ولا تمثل تهديدا لمصداقية مصر التشريعية أمام العالم ومؤسساته السياسية والمصرفية كما حاول لصوص النظام البائد وأذنابهم ممن هم لازالو بعيدا عن مقصلة الثورة، إيهامنا، ولنا فى تصريحات أدلي بها المستشار "محمد حامد الجمل" – الفقيه الدستوري ورئيس مجلس الدولة الأسبق – دليلا علي إمكانية ذلك وقتئذ، وربما الآن إذا خلصت النوايا. يقول المستشار "محمد حامد الجمل": "إن المحاكمات الجارية حاليا لن تحقق القصاص العادل، ولن تأتي للمظلومين بحق ولا باطل، نظرا لأن القضاء العادي يعمل على أساس ثبوت أدلة الاتهام واقعيا وبالتكييف القانوني بصورة يقينية، فضلا عن طول الإجراءات وتقديم المتهمين من رموز النظام البائد للمحاكمة فى تهم (محدودة) كالرشوة والاشتراك فى قتل الثوار، فضلا عن عدم توافر الأدلة التى عبث بها أنصار الثورة المضادة، بما يعجز القاض عن الوصول إلى اليقين اللازم لإصدار أحكام القصاص الواجبة. ويضيف "الجمل": كان يجب تشكيل محكمة ثورية من سبعة مستشارين بمحاكم الجنايات، وتخصيص نيابة عامة لقضايا الفساد والاستبداد السياسي، وتقديم من ارتكبو هذه الجرائم، بعد التحقيق معهم، لهذه المحكمة، التى تلتزم بالقواعد الأساسية للحفاظ على حق الدفاع على أن تصر الأحكام بسرعة، ويجوز الطعن على الأحكام أمام محكمة أعلي يتم تشكيلها بذات الطريقة، من أحد عشر مستشارا ويتم الطعن علي أحكامها خلال شهر، وبهذا كان من الممكن القصاص العادل من المجرمين فى حق الشعب". انتهي كلام المستشار، والذي لم يتحقق منه شيئ بالطبع، بل سارت الأمور على نهج نختلف تماما، كما سنرى; منذ أن استحوذ "العسكر" على السلطة، عمد إلى تحقيق أهداف فرعية تنتهي إلى تحقيق هدف واحد كبير، فبدأ بالإجهاز على الثورة، عبر المذابح المتتالية والاعتقال المستمر لنشطائها، والتشويه الإعلامي لكوادرها، بعد أن كان هؤلاء النشطاء والكوادر نجوما فى السماء أيام الثورة الأولي، قبل أن يتم خسفهم أرضا، على مدي الشهور التالية، كما استخدمت أجهزة مخابراته العسكرية أسلوبا فريدا فى استنفذا جهد وصبر الثوار، فبدلا من تنفيذ أهداف الثورة، كان المطلب الواحد يحتاج إلى مليونية لكي يتم تنفيذه، وهكذا، حتى فقدت المليونيات معناها، ولم يتحقق من الأهداف إلا النذر اليسير. وبدلا من تطهير البلاد من رموز النظام الذي قامت ضده الثورة بالأساس، وفر لهم الحماية، حتى أن عدد من تم تقديمهم للمحاكمات التى يصفها كثير من المراقبون بالمسرحية والهزلية ويصمها البعض بمهرجان البراءة للجميع، لا يزيد على واحد بالمائة من مجرمي النظام البائد، مما فتح الطريق واسعا، أمام الفلول ليستعيدو قواهم، ويبدأو ثورتهم المضادة، بدعم صهيو – أميريكي – خليجي، على سبيل وأد الثورة التى لا يريدون لها أن تكتمل حفاظا على النظام الخادم المطيع لأجنداتهم المعادية لمصالح الوطن ولحرية أبنائه. وهكذا حقق العسكري هدفه الأول، بتفريغ الثورة من طاقاتها الفعالة، علي خلفية من ضجيج آلته الإعلامية التى ساهمت فى خلق حالة من النفور بين الشعب وثورته، وحتى بدأ أناس سذج يجأرون علنا كالقطيع: "ولا يوم من ايامك يا مبارك"..! أما الهدف الثاني الذي حققه العسكري، فكان القضاء على القوة الصاعدة سريعا لجماعة الإخوان المسلمين، بعد أن استخدمهم جيدا فى تنفيذ هدفه الأول، بأن أخرجهم من الميدان فى مقابل صفقة البرلمان، وبالطبع كان يعلم أنه عندما حصل على وعدهم بألا يحصلو على اكثر من 35 % من مقاعد البرلمان، أنهم كانو يكذبون، أو على أقل تقدير، وراء بريق السلطة سيهرولون ولعهدهم معه سينقضون... ومن هنا كانت "الخية" التى صنعها العسكر للإخوان ليشنقوا بها أنفسهم، بأيديهم، وها هم الآن مرفوضون منبوذون من معظم أطياف الشعب المصري، فيما عداهم وحدهم. الهدف الثالث، الذي حققه العسكر، كان القضاء على التيار السلفي، الذى تسلق ظهر الإخوان، وصولا إلى مالم يكن أكثر المتفائلين تفاؤلا يحلم به، من حصول على نسبة تصل إلى أكثر من عشرين بالمائة من مقاعد البرلمان، بينما وقبلها بشهور قلائل، كان معظم الكوادر السلفية، إما منفية داخل حدود الوطن أو خارجه، أو رهن الاعتقال طويل الأمد. وما أسرع ما كشف السلفيون - السياسيون أنفسهم، أمام الرأي العام، فمن أنف البلكيمي إلى ترك الكوارث التى تمر بها البلد، والاهتمام بقانون غلق المواقع الإباحية، وأخيرا قانون مضاجعة الرجال لزوجاتهم "المتوفيات" ... وهكذا، حقق المجلس العسكري أهدافه كلها، ولكن كلها للأسف كانت فى شباك الوطن وليس شباك أعدائه، سواء الخارجيين او الداخليين، كل ذلك من أجل عيون "المخلوع" .. حتى لا يحاكمه، وكيف يحاكمه وهو مازال يعتبره القائد الأعلي للقوات المسلحة، ومن أجل عيون الننوس "بطرس غالي" شاهبندر لصوص النظام، الذي يعيش منعما فى عاصمة الضباب، مصحوبا بلعنات الشرفاء المصريين، ومن أجل هارون ال"رشيد محمد رشيد"، الذي يواصل استثمار ما نهبه من أموال مصر، فى حماية "كشك" الخليج الأكثر ثراء .. "الإمارات". للأسف: حقق العسكري كل أهدافه ولم يبق إلا الهدف الأكبر، وهو إعادة إنتاج النظام البائد بعد تفريغ الساحة مما سواهم من جميع القوي الأخري، من أقصي اليسار السياسي، مرورا بالليبراليين، وحتى أقصي اليمين، ممثلا فى المتأسلمين (إخوان وسلفيين). للأسف ترك العسكري البلاد تلتهمها الفوضي وتشتعل فيها الحرائق التى يفوح منها دخان الخيانة الذي يزكم الأنوف، بينما هو يسخر منا، مرة بإلقاء المسئولية على "الطرف الثالث"، ومرة باتهام الأجندات "الأبريلية"، وإذا ضج الجميع فى وجهه، هددنا بسيف الطوارئ، معلنا عبر تصريح أخير للواء - ترزي "ممدوح شاهين": أن قانون الطوارئ (الذي قامت أول ما قامت الثورة ضده)، وإن كان "معطلا" فهو لازال ساريا، حتى ولو بعد انتخاب الرئيس القادم، مما يعني أن القادم هذا لن يكون سوي دمية فى يد العسكر، يلهو بها كما شاء ... أما الثورة، التى لم تنجح إلا عندما كان المصريون جميعا على قلب رجل واحد، فلها رب يحميها. وأما مصر .. فلها الله... وهو يملي للظالم حتى إذا ظن انه بأمن من عقابه: أخذه فلم يفلته.