شكلت مهمة كوفي أنان في سورية ميدانا لتظهير التوازن الجديد الذي بات يحكم العلاقات الدولية وواقع الأممالمتحدة التي يمكن القول وبثقة أن توازناتها بدأت في التحرك نحو وضع جديد يحد من تمادي الهيمنة الأميركية التي حولتها إلى مستعمرة تتلقى الأوامر منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. أولا: بات واضحا أن روسيا هي التي تتولى الإدارة السياسية والميدانية لمهمة أنان وتتصرف على أنها مفوضة دوليا لهذا الدور في ظل إذعان أميركي وغربي داخل مجلس الأمن للمشيئة الروسية الصينية، المتمثلة بإتاحة مسار سلمي لتخطي الأزمة عن طريق الحوار و إلقاء سلاح العصابات التي يمولها الخارج في سورية. برز التصميم الروسي والصيني على الملاحقة اليومية للتطورات في سورية وعلى الدخول في صياغة التفاصيل كما حصل بالنسبة لبعثة المراقبين وصلاحياتها ومضمون بروتوكول التعاون بينها وبين الدولة السورية، بينما تحولت الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا إلى موقع المشاغبة والتحريض وتغطية عمليات التخريب من خارج مجلس الأمن وبالشراكة مع حلف العدوان الإقليمي الذي يضم تركيا والسعودية وقطر. كأنما يجري تبادل للمواقع فقد درجت العادة خلال العشرين عاما الماضية أن تصدر قرارات مجلس الأمن نتيجة املاءات أميركية وغربية وأن تقف كل من روسيا والصين في حالة اعتراض وتحفظ من خارج مجلس الأمن وهذا حصل أكثر من مرة ، قبل الفيتو المزدوج الذي اتخذته الدولتان العظميان في سياق منع العدوان على سورية بغطاء دولي. ثانيا: إن المشاغبة الأميركية والغربية التي تحملها التصريحات والمواقف والتصرفات العملية لدول المعسكر الغربي وعملائه في المنطقة ناتجة أصلا عن الشعور بإفلات زمام المبادرة من أيدي هذه القوى وبأن التسليم بالمعادلات الدولية الجديدة سوف يرتب على هذا المعسكر خسائر جسيمة سياسية وإستراتيجية. لا تخشى الولاياتالمتحدة وشركاها فقط من خروج الرئيس بشار الأسد منتصرا و من نتائج اعترافها بهذا التحول النوعي، بل أيضا إنهم يخشون من شمول الهجومية الروسية والصينية داخل الأممالمتحدة لملفات نزاع أخرى كثيرة ، لن تلبث أن تتحرك بعد نجاح الاختبار السوري، ومن هنا فان تخريب مهمة أنان يبدو بمثابة الطريق إلى إفشال تبلور ورسوخ التوازن العالمي الجديد. التصميم الروسي والصيني على نجاح مبادرة أنان بالتعاون مع الدولة السورية وبالمراعاة الكاملة للشروط السيادية التي طرحتها الدولة الوطنية السورية يجعل من الأحداث التي تشهدها سورية اختبارا حاسما للواقع الدولي الجديد ولأداء الأممالمتحدة في ظل التوازنات الناتجة عنه. أحكام البروتوكول بين الدولة السورية وبعثة أنان، وآلية تكوين فريق المراقبين من دول غير مصنفة لدى سورية في لائحة المتورطين بالحرب التي يقودها الأميركيون ضدها، والتفاصيل الكثيرة التي يشارك الروس في صياغتها على مستوى التقاط فرصة الحوار بين الدولة الوطنية وبعض أطراف المعارضة غير المتورطة في العمل الإرهابي، وفي العمالة للأجنبي، تلك جميعها علامات فارقة على الوضع الدولي الجديد. ثالثا: إن هذا التوازن العالمي الجديد الذي نتحدث عنه هو انجاز حققه صمود الشعب السوري وقوة الدولة السورية والجيش السوري وأسلوب الرئيس بشار الأسد في إدارة الصراع ، و في نسج التحالفات منذ العام 2000 ، ويقينا إن ما قدمه السوريون من تضحيات يثمر صورة جديدة للعالم سوف تفيد منها جميع الشعوب الحرة على وجه الأرض عبر طي صفحة الهيمنة والغطرسة الأميركية التي جعلت من الأممالمتحدة أداة عدوان بدلا من وظيفتها المفترضة كمرجعية متوازنة مسؤولة عن فض النزاعات ، وإيجاد الحلول المتوازنة والسلمية للحروب والمشاكل ، و هو التعبير الذي استخدمه المندوب الروسي الدائم فيتالي تشوركين في وصفه للقرار 2043 ، في حين جعل العصر الأميركي الذي أطلقه المحافظون الجدد من الأممالمتحدة، قفازا لذراع الإمبراطورية الاستعمارية الغارقة في دماء الشعوب. لا شك أن كثيرا من المخاوف والتحفظات، يشعر بها المواطنون السوريون إزاء أي مهمة تتصل بالأممالمتحدة، وهذا يفرض على الشباب والقوى الشعبية المتحركة في سورية، التي أثبتت فعاليتها البقاء على حالة من الانتباه واليقظة لمحاصرة أي خلل قد يظهر في أداء المراقبين، ولرفع الصوت عاليا كما فعلوا في الساحات على امتداد سنة كاملة. إن الشعب السوري هو القوة الفعلية التي فرضت التغييرات بصموده وبولائه القومي والوطني وهو القوة الضامنة لمنع أي تسلل لفكرة العدوان على سورية، عبر إظهار مدى مناعة ومتانة القوة السورية و ذلك ما تشير إليه الاعترافات الأميركية المتلاحقة بالاستعصاء السوري. رابعا: إن المرحلة الثانية من انتشار المراقبين تفترض انتقال بعثة أنان إلى تسمية العصابات التي صعدت من عمليات الاغتيال والتفجير خلال الأسبوع الماضي، وهذا ما يعني أن الحليف الروسي سيكون مدعوا للطلب إلى مجلس الأمن في ضوء التقارير الميدانية الموثقة اتخاذ إجراءات وعقوبات ضد الدول التي تواصل مد العصابات الإرهابية بالأسلحة والأموال وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة وكل من تركيا وقطر والسعودية، وسيكون مجلس الأمن أيضا مطالبا من خلال فريق المراقبين بتبيان حقيقة التجاوب الكبير الذي تبديه الدولة السورية مع مهمة أنان، فلا يكفي أن يدعو أمين عام الأممالمتحدة هذه الدولة، إلى ضبط النفس أمام عصابات تعلن مرجعيتها الخارجية والأجنبية التصميم على مدها بأدوات القتل لتخريب وقف النار، أو تلك العصابات الإجرامية التي لا مرجع لها ولا صفة سياسية لها، وحيث يحق للدولة السورية أن تحظى بالتغطية والمساعدة الدوليين لمكافحة الإرهاب، عملا بالمبدأ الذي أقرته الأممالمتحدة في العقدين الماضيين وبات جزءا من آليات عملها. إن الوصول إلى مرحلة إلقاء السلاح وبدء الحوار لا بد أن يمر بهذه الحلقة وحيث ستكون مسؤولية الحليفين الروسي والصيني كبيرة وأساسية.؟