ما يقدمه صنع الله إبراهيم على صفحات كتاب «يوميات الواحات» ليس إلا سردا وحشيا للمرحلة التي أمضاها مع جمع كبير من كوادر المعارضة المصرية في معتقل الواحات سيء الصيت ومحاولة لتحليل الدروس المستفادة من هذه المرحلة.القيمة الحقيقية للكتاب لا تكمن في كونه تاريخا، وانما في دعوته إلى تكاتف الجهود لكي تكون كل تجربة تنتمي إلى المناخ الكابوسي الذي يحدثنا عنه تاريخا، إلى ألا تنتمي إلى حاضرنا، أو مستقبلنا، اللذين نعرف جميعا أن فيهما من الانكسارات والهزائم الوحشية ما يكفي، ويزيد. لم تمكث مجموعة المعتقلين التي كان صنع الله من بين أفرادها في الواحات كثيراً، حيث تم ترحيلهم فجأة بعد أشهر قليلة إلى سجن القناطر الخيرية، ووضعوا في مكان منعزل وحرموا تماما من فرصة الاختلاط بالسجناء العاديين والحصول على الصحف، كما منعوا من استخدام المكتبة ومن الاستماع إلى الراديو. وهناك فوجئ صنع الله بالصول العجوز «أبو رجيلة» الذي كان يتولى تدريبه في المقاومة الشعبية مسؤولاً عن الطابق الذي أقاموا فيه، وكان هذا الصول يستمتع بأن يجلس على مقعد وسط العنبر ويأمرهم بأن يمكثوا أمامه، وفي مقدمتهم شهدي عطية. كانت تلك الفترة، حسب وصف صنع الله، قاسية حقا، فالمكان شديد البرودة وفراشهم مكون من «برش» من الليف وبطانية، وفرض عليهم ان يضعوا هذا الفراش كل صباح خارج الزنازين التي تغلق عليهم حتى المساء، ويقضون اليوم كله وهم يقفزون كالقرود التماساً لبعض الدفء. وعلى الرغم من منع الكتب فلم يستطع مدير السجن منع الكتب السماوية الثلاثة فأتيح لصنع الله أن يقرأ التوراة والإنجيل، وأن يرى العلاقة القائمة بين الكتب السماوية الثلاثة والتجليات المختلفة للحلم الإنساني بالعدل والمساواة، كما أن الحكايات التاريخية في التوراة والقرآن روت عطشه للقصص، وشطح خياله في تطوير كثير منها. في أواخر فبراير من العام التالي، نقلوا إلى سجن الإسكندرية للمثول أمام محكمة عسكرية بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم. وقبل المحاكمة بأسبوع ، حسبما يذكر صنع الله، نشبت مشادة بين أحد ضباط السجن وزميل من الإسكندرية حمدي مرسي يهوي الملاكمة وسريع الانفعال فما كان من الأخير إلا أن رد عليه باللكمات، فأمر الضابط بإغلاق الزنازين وتجمع الحراس على الفور، وأمروهم بالخروج عرايا، حيث انهالوا عليهم بالضرب، وتم تجريد الزنازين من محتوياتها من الملابس والأطعمة. وعندما أعادوهم إليها فتح الباب حارس متجهم سكب فوق أجسادهم العارية جردل البراز والبول. رحلة شقاء وتتواصل رحلة الشقاء لصنع الله ورفاقه حيث يتم بعد المحاكمة نقلهم إلى معتقل أبي زعبل الملحق بالليمان الشهير في ضواحي القاهرة ولم يكن أغلبهم، حسب كلام صنع الله، يعلم أن إحدى الصفحات السوداء في التاريخ السياسي المصري الحديث تكتب فيه. وهنا يأبى صنع الله أن يمرر هذا الجزء من دون الإشارة إلى ملامح من هذه الصفحات والتي لم يعايش سوى جانب محدود منها مستعينا بشهادات الكثير من الكتاب الذين مروا بتلك التجربة ووصفهم لتفاصيل عمليات التعذيب الذي استمر بالنهار والليل وامتد من الضرب والتجويع والإهانة المستمرة إلى العمل في تكسير البازلت، وكان يتم تصعيده حتى بلغ جرعة الحد ال��اصل بين الحياة والموت. بل وتصل المفارقة أو السخرية ذروتها إلى الحد الذي لا يجد معه المرء سوى الضحك أو البكاء، فالأمران سيان في هذه الحالة، حين يذكر لنا صنع الله ضمن رواياته عن هذه الصفحات أن الإرهاق لم يصب المعتقلين وحدهم بل امتد إلى الحراس أنفسهم حتى أن السجان عبد الصادق الذي لقب بنخاس العبيد من جراء قسوته أصيب بالإعياء ذات يوم فصرخ في ضحاياه قائلا: «يا أولاد.. ياللي ما فيش في قلوبكم رحمة!». غادر الفوج الإسكندرية بعد منتصف ليلة 15 نوفمبر في سيارات الترحيلات الكبيرة المغطاة، وجاء نصيب صاحبنا في سيارة واحدة مع شهدي عطية الشافعي، الذي تميز حسب وصفه بقامة طويلة وعظام عريضة بينما كان صنع الله وما زال نحيف البنية ضئيلها. وصلت السيارات في الخامسة والنصف صباحا إلى ساحة بها أكوام من القاذورات، وتشرف عليها فرقة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة والضباط المزودين بالسياط فوق خيولهم، وصدرت اليهم الأوامر التي تخللتها الشتائم بالجلوس القرفصاء وخفض الرؤوس، ولأن رأس شهدي كانت بارزة بسبب طول جسمه، فقد صاح به أحد الضباط، وهو يضربه بالعصا على عنقه: «وطي رأسك يا ولد!» فيما إنهال ضابط آخر على مسجون آخر بهيج نصار وهو يصيح فيه: انت مشمئنط ليه يا بن ال ... ». وفجأة، تم استدعاء صنع الله مع ثلاثة آخرين، وصدرت الأوامر للأربعة بأن يجلسوا القرفصاء في جانب، ويضعوا رؤوسهم في الأرض، ففعلوا، ثم أمروا بأن يرفعوا رؤوسهم بحيث يرون ما يجري لزملائهم وتتابعوا أمامهم يجردون من ملابسهم وهم يضربون ويترنحون عرايا وهم يلهثون ويغمى عليهم، فيغسمون في مياه ترعة صغيرة ويداسون بالأقدام. وقد رأى إبراهيم عبد الحليم أحد العناصر القيادية في تنظيم حدتو وهو عار يلهث من الضرب الذي كاله له أحد الضباط، وفي ثوان تم تجريدهم من ملابسهم الخارجية والداخلية حتى صاروا عرايا من دون أن تكف الشتائم والضربات، وركع صنع الله أمام حلاق جز شعر رأسه ومن دون أن يتوقف الضرب بالشوم، ثم أعطاه أحدهم لفافة من ملابس السجن وبرشاً وبطانية خفيفة. وبدأ الضرب من جديد. جره أحدهم على ظهره فوق الرمال بطريقة السحل. وسط هستيريا الضرب التي استولت على الضباط جميعا. رحيل شهدي في مساء ذلك اليوم، علم الجميع بوفاة شهدي عطية الشافعي، وقد كانت حفلة التعذيب التي تعرض لها صنع الله مع الثلاثة الآخرين بقصد الضغط عليهم من أجل المثول أمام النيابة والشهادة في واقعة وفاة شهدي بأنه توفي قبل وصولهم إلى المعتقل، وبالقدر الذي احتله شهدي من الحركة الشيوعية المصرية، وبقدر البشاعة التي تمت بها جريمة القتل العمد التي راح شهدي ضحية لها، كان الحدث بمثابة مأزق للنظام لم يعرف كيف يفلت منه. ويحاول صنع الله أن يضعنا في قلب الحدث على الرغم من أنه لم يكن شاهداً عليه، مقدماً لنا من واقع التحقيقات التي جرت فيما بعد كيف تمت الوفاة .لقد وقعت الوفاة في إحدى حفلات التعذيب التي يشيب لهولها الولدان، وتنتهك فيها أبسط الحقوق الآدمية، ووفق ما يذكر أحد شهود الحادث - السيد يوسف - يقول إنه بعد ان تم استدعاء مجموعة من المعتقلين كان شهدي من بينهم بادره المأمور حسن منير عندما رآه قائلا: إنت بقى شهدي عطية؟ عمللي علم؟ أنت شيوعي يا وله ؟ قول: أنا مرة! فقال شهدي : عيب أسلوبك هذا، فأنت تسئ للنظام بهذا التصرف، ونحن قوى وطنية ليست ضد الحكومة، وحتى لو كنا ضد الحكومة، فليس من حقك أن تسلك هذا السلوك الوحشي فنحن أصحاب رأي».وهنا تسلمه اليوزباشي عبد اللطيف رشدي، بعد أن أنهكوه بالضرب والإغراق في مياه ترعة قريبة وتمزيق ملابسه حتى أصبح عاريا تماما، وسأله رشدي والضرب مستمر: «إسمك ايه يا ولد؟!». فيرد شهدي : أنا مش ولد! إسمك أيه؟ شهدي عطية. أرفع صوتك! فلم يرفع صوته، وكرره بالنبرة نفسها، وهنا عاد السؤال مرة أخري : أسمك ايه؟ أجاب شهدي: إنت عارف أنا مين. إنت شيوعي؟ وليبدأ بعد ذلك فاصل من التعذيب تم خلاله دفع شهدي ليلف حول العنابر، ثم سمع الحضور صوت جسم يرتطم بالأرض، فقال أحد الجنود لزميله: شيله! فقال : لا شيله انت. فين التومرجي، حضر الأخير، وراح يخبط على جسمه قائلا: «قوم يا وله .. خليك جدع يا وله!» ولما لم يجد استجابة راح يؤكد : «يظهر أنه خلص خلاص!» ولم يجد طبيب الليمان إزاء ذلك سوى أن يكتب في تقريره ان الوفاة جاءت نتيجة هبوط في القلب. تناقلت وكالات الأنباء الخبر، وكان عبد الناصر وقتها في بلغراد، ودعاه تيتو لحضور مؤتمر شيوعي، ووقف مندوب يوغسلافي وسط الجلسة المهيبة، ووجه التحية إلى ذكري الشهيد الذي قتل في مصر بسبب التعذيب. وتعرض عبد الناصر لسؤال من أحد الصحافيين عن الأمر فقال: «لم نقتل أحداً، ومن يخرج على النظام يقدم للقضاء العادل»، ولكنه أبرق لوزارة الداخلية في القاهرة بإجراء تحقيق عاجل في الحادث ووقف التعذيب وترحيل المعتقلين إلى مكان أكثر أمنا. لقد ألقت هذه التجربة بتأثيرها الكبير على صنع الله، حيث كشفت له عن بشاعة القهر وما يؤدي اليه من إهدار للكرامة الإنسانية، وعلمته النظر إلى الإنسان ككل متكامل مؤلف من نقاط قوة ونقاط ضعف واحتل هذا الموضوع مكان الصدارة في تفكيره بعد ذلك فيما أعقب ذلك من أحداث. وفي هذا الخصوص، يشير إلى أن التعذيب لم يتوقف بعد مصرع شهدي عطية في أبي زعبل وإنما اتخذ شكلا جديدا على يد اختصاصيين تدربوا في الولاياتالمتحدة، فقد تلقى البعض خطابات من أهاليهم تطالبهم بالخروج وسماع الكلام» وهددت زوجات بطلب الطلاق وكتبت طفلة إلى أبيهاأخرج من أجلي ومن أجل ماما .. قالوا لي أنك لا تريد أن تخرج لأنك تكرهنا.. أنا أكرهك».