الموعد الأول : فى شرفة القصر الكبير على مقربة من قصر الخليفة ، جلس طولون مع زوجته قاسم صامتان إلا من بعض صوت أوراق الشجر التى تُصدرصفيراً حين تغشاها الرياح نظرت قاسم إلى دوالى العنب نظرة تأمل طويلة فراقبتها وهى تمرق هاربتا ً من ضوء القمر وتحتمى بالأوراق حين يسقط عليها ضيّه فى كسوف ودلال واضحان فتظهر كلؤلؤة بها مسحة من خفة ودلال . قطعت صمت السكون بقولها من ( حين قمت بزيارة أعمامىٍ من الأتراك رأيت طفلا ً صغيرا حرم من أباه وأمه ، الذان توفيا وتركاه ، وهو الآن يتيم ٌ يعيش على عطف الناس وإحسانهم إليه ويدعى أحمد - أما زلت تفكرين فى هذا الأمر ؟ أنا لا أعترض ولكن أحسنى الإختيار كانت قاسم لا تنجب ودائما ما تفكر فى تبنى طفل تربى أحمد فى قصر أبيه بالتبنى طولون كبر أحمد فى قصرأبيه طولون وتعلم الفقه وحفظ القرآن وكان صوته فى أجمل ما تكون الأصوات فى قراءة القرآن . دخل أحمد على أبيه يوما فقال له: بالباب قوم ضعفاء لو كتبت إليهم بشئ فقال ( اذهب وأتنى بدواة من المقصورة ) ؛ فدخل فرأى بالدهليز جاريتا ً من حظايا طولون قد خلا بها خادم ، فمر سريعاً وعاد بالدواة ولم يتكلم فحسبت الجارية أنه يسبقها إلى طولون بالقول ، فجاءت إلى طولون مسرعتا وقالت له : ( إن احمد راودنى الساعة فى الدهليز وأراد أن يختلى بى ) فأثارت بذلك حميّّة الأمير فكتب إلى بعض عماله أن أقتل حامل الرسالة من غير مشورة ، وأعطاها لأحمد وحين أراد الخروج اعترضته الجارية وقالت له : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : فى حاجة مهمّة للأمير ؛ فقالت :أنا أرسله ، ولى بك حاجة ، فدفعت بالكتاب إلى الخادم المذكور وقالت : اذهب به إلى فلان وشاغلت أحمد بالحديث وأرادت بذلك أن يزداد غضب الأمير عليه وحين وقف المأمور على الكتاب قطع رأس الخادم وبعث بها إلى الأمير طولون ، فلما رآه دُهش واستدعى أحمد ؛ وقال : اصدقنى ، فحكى له ما رآه وخرجت الجارية منهارة حين سمعت بالخبر واعترفت بعلاقتها مع الخادم فقتلها ، وحظى أحمد عنده بمكانة كبيرة الموعد الثانى : ترعرع أحمد وتزوج بابنة عمه خاتون وأنجبت له العباس وحين مات طولون أسند الخليفة المستعين لأحمد ما كان لأبيه وولاه إمرة الثغور كان بن طولون شديد الحنق على ما يفعله الأتراك بالخلفاء وكان المستعين يحبه ويومئ إليه بالسلام سراً خوفا ًمنهم ، وأهدى له جارية اسمها ميّاس انجبت له خمارويه ، ولمّا تنكر الأتراك للمستعين خلعوه ونفوه إلى واسط ، وقالوا له : من تختار لصحبتك ؟ قال : ابن طولون ؛ فأحسن مصاحبته وبعد برهة من الزمان ليست بالطويلة كتب الأتراك لأحمد : أن أقتل المستعين ولك واسط نولّيك عليها فكتب إليهم : لارآنى الله قاتلا خليفة ً بايعت له أبدا ! فبعثوا إليه سعيدا الحاجب وكان المستعين يلقبه بجزار بنى هاشم فقتله ولما عاد أحمد بن طولون إلى سر من رأى أقام بها ، وزاد محلّه عند الأتراك فولّوه مصر والشام فقال : (غاية ما وُعِدت به فى قتل المستعين واسط ، فتركت ذلك لله تعالى فعوضنى بمصر والشام ) الموعد الثالث : فى سنة من السنين نزلت حاجة ماسّة بدار بن طولون واحتاج فيها احتياجا شديدا إلى المال ، وكان قد أومأ إليه الخليفة المعتمد تسلّم الخراج فدخل عليه كاتب ٌ لديه يقال له ابن دشوّمة كان واسع الحيلة شديد الدهاء ممتلك الحُجّة فقال له : أقول ما عندى ويؤمّننى الأمير . قال له : قل وأنت آمن . فبدأ يبرّق أموال الخراج ويصف له حال بيت الأميرالمكدح ويبرر له فعلته حتى لان له الأمير ؛ فرأى فى نومه صديق له قديم قد مات منذ زمن ، فقال له : ( دع عنك قول ذلك الرجل ويبدلك الله خيرا منه ) وحدث أن خرج للصيد فى الصحراء يوما فغاصت فرسه فى بقعة رمال فكشف عنها فإذا هى ألفُ ألفِ دينار مخبأة فأخذها وبنى منها الجامع المشهور باسمه فى مصر وسجن ابن دشومة وأغلظ عليه حتى مات فى محبسه الموعد الأخير: فى أحدى الليالى رأى الأميرفى نومه كابوسا مروعا كأن الحق سبحانه قد مات فى داره ؛ فشق عليه ذلك ووقع فى قلبه شيئا كبيرا فطاف على العلماء فلم يستطيع أحد أن يفسرها له حتى قال له أحدهم : ( أقول ما فى نفسى وتؤمننى ) فأمنه فقال له : ( أنت رجلٌ ظالمٌ ، قد أمت الحق فى دارك ) فبكى وذلك أنه كان حاد الخلق وشديد المزاج وأنه مات فى محبسه ثمانية َعشرألف من العسف وسفك الدماء وكان العباس ابنه شاب عاصيا سكّيرا وحُمِل ذات يوم إليه فحبسه وأغلظ عليه فمات فى محبسه بعد موت أبيه وكان شاعرا فقطفق ينشد : لله درى إذ أعدو على فرسى إلى الهياج ونار الحرب تستعر إن كنتِ سائلة ً عنى وعن خبرى فهأنا الليث والصمّامة الذكر من آل طولون أصلى إن سألت فما فوقى لمفتخر فى الجود مفتخر واشتد المرض على أحمد بن طولون ذات يوم فخرج المسلمون بالمصاحف واليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل والمعلمون بالصبيان إلى الصحراء ودعوا له على أن يشفيه الله ،ولكن القدر كان له رأى آخر فوقف أمام ابن طولون هذه المرة وحين أيِس من نفسه رفع يديه إلى السماء وقال ، يارب ارحم من جهل مقدار نفسه وأبطره حلمك عنه ثم تشهّد فسقطت يديه ومات بمصر. ..