تابع الناس في طول العالم وعرضه ما تناقلته وسائل الإعلام حول الجرم الذي كان قس مغمور في أمريكا يدعي تيري جونز ينوي اقترافه بحرق نسخ من القرآن الكريم. ولن أتناول بالحديث هذا الرجل, فيكفي ما قالته عنه ابنته أقرب الناس إليه:' انه فقد عقله', ولم يحزني هذا التفكير الشيطاني فالله تعالي قال لرسوله:' ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم' آل عمران176, حتي لو نفذ تيري جونز تهديده وأحرق نسخا من المصحف فلن يضر الله ولا كتابه شيئا, لأن القرآن محفوظ في الصدور, ثم إنه لو أحرق ألف نسخة سنجد من بين المسلمين من يتبرع لطبع ملايين النسخ, ودائما ما تأتي المحن بالمنح فمن منح هذه المحنة شجب عدد من رجال الدين النصاري واليهود ومعهم عدد من المفكرين والمثقفين من غير المسلمين فكرة تيري جونز, وهذا أمر إيجابي علي كل حال. لكن في خضم هذا اللغط لفت انتباهي قول قاله هذا القس, وهو أنه لم يقرأ القرآن ولا يعرف محتواه! وهنا بيت القصيد, فإذا كان الرجل يتحمل جزءا من مسؤولية جهله بالقرآن الكريم ومضمونه, فإن الدعاة المسلمين يتحملون الجزء الأكبر من هذه المسؤولية, وأخص من الدعاة أولئك المقيمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية, فمما لا شك فيه أن هناك قصورا عندهم ولا أقول تقصيرا- فالأولي ضعف والثانية معصية-, وهناك خطأ في المنهج الدعوي الذي يتبعونه, وقد أشار فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه إلي هذا في محاضرة له بعنوان عوامل انحطاط الحضارة الإسلامية ألقاها بدعوة من منظمة الندوة العالمية للشباب الإسلامي في السعودية حيث قال: ماذا يفيد الإسلام من دعاة يغشون المجتمعات الأوروبية والأمريكية يلبسون جلاليب بيضاء ويجلسون علي الأرض ليتناولوا الطعام بأيديهم, ثم يلعقون أطراف أصابعهم, وهذا في نظرهم هدي الرسول في الأكل الذي يبدأون من عنده عرض الإسلام علي الغربيين ؟!. وعندما يري الغربيون رجلا يريد الشراب فيتناول الكأس ثم يقعد إن كان واقفا ليتبع السنة في الشراب, فهل هذا المنظر الغريب هو الذي يغريهم بالدخول في الإسلام ؟. كلا, بل ينفرهم. ولذلك فإن علي الأئمة في الغرب عموما وأمريكا خصوصا أن يحدثوا الناس أحاديث تبلغها عقولهم فإنهم إن لم يفعلوا كان ذلك فتنة لهم, وقد أفاد عدد من الأئمة الذين اتصلت بهم في أمريكا لتقصي فكر هذا القس, أنه ممن يعبدون سيدنا عيسي, وعليه فإن الحديث الذي يناسب عقله, إعلامه أن إسم سيدنا عيسي ذكر في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة جميعها في مقام التبجيل والتكريم والإطراء والثناء, وأن إسم مريم ذكر أربعا وثلاثين مرة جميعها في مقام التشريف والاحترام ؟, وتأتي المرحلة التي بعد هذه لترسيخ التآلف والتصالح والتعاون. في تقديري المتواضع لو كان االقس وأتباعه يعرفون مدي إنصاف القرآن لعيسي ومريم لخجل من إطلاق دعوته المشؤومة تلك, وعليه فإن الدور المنوط بالدعاة في الغرب أن يختاروا للشعوب هناك ما يصحح مفاهيمهم عن الإسلام بأنه دين سلام, يحرم سفك الدماء, ولا يفرض عنوة علي الناس, إنه دين حيوي يدرأ الجهل والفقر والمرض والخمول, دين يشيع الحب والرحمة, وينشر العدل والحق والخير والمساواة, ويدعو إلي التكاتف والتعاون والتغافر حتي مع غير المسلمين. هذا هو المنهج النبوي في الحديث الذي رواه البخاري عن يوسف بن ماهك إذ سمع من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حديثا تقول فيه:'... إن من أول مانزل منه( أي القرآن) سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار, حتي إذا ثاب الناس إلي الإسلام نزل الحلال والحرام, ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا, ولو نزل: لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا.. إلي آخر الحديث... ولقد حضرت تجربة عملية لاستخدام المنهج الخطأ في الدعوة وكانت النتيجة الطبيعية الفشل, إذ كنت في زيارة ضمن وفد إلي جمهورية كازاخستان وهي من الجمهوريات التي بها نسبة غير قليلة من السكان الذين مازالوا يتلمسون دينا يعتنقونه بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي, فليسوا بمسلمين ولا مسيحيين ولا هم يهود, وإنما في مرحلة اختيار مفتوحين علي كل الأفكار, وقالت لنا المترجمة إن نسوة من الكازاخيات جئن إلي المركز الثقافي يردن أن يحدثهن أحدكم عن مكانة المرأة في الإسلام, استبشرنا خيرا فهؤلاء جئن بمحض إرادتهن يبحثن عن الحقيقة وبالتالي فلن نجد عناء كثيرا في إقناعهن. وطلب أخ كريم لنا أن يتصدي هو للمهمة فرحبنا وكنا علي ثقة بأنه سيشرح لهن حديث الرسول النساء شقائق الرجال, وقوله صلي الله عليه وسلم لو كنت مفضلا أحدا علي أحد لفضلت النساء علي الرجال, وأن الإسلام هو الذي جعل المرأة ترث بعد أن كانت تورث. لكننا فوجئنا بالأخ العزيز يحدثهن عن تعدد الزوجات إذ يجوز للرجل أن يتزوج أربعا, وأيما امرأة باتت زوجها غاضب عليها هي في النار, وإذا دعا الرجل امرأته إلي فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتي تصبح!. وأذكر أن إحداهن وقفت وسألته أسئلة منطقية ولم تكن ردوده مقنعة. وطبعا انصرفن وقد أصبن- وأصبنا معهن- بخيبة أمل لم تفلح معها محاولاتنا إصلاح ما حدث. أعتقد أنه وجب علينا مراجعة المناهج التي نتعامل بها مع الغرب, دون التفريط في ثوابتنا وقيمنا الأسلامية من أجل إرضاء هؤلاء وأولئك, لأن الإسلام بما فيه من أسباب السعادة قادر علي إشاعة الحب مع الآخرين إذا وقفوا علي حقيقته.