التردد مرض من الأمراض التي قد لا يؤبه بها ولكنه موجود وهو يصيب الإنسان إصابة بالغة في حياته العملية فيشل عقله ويتركه فريسة للألم والخجل من ضعفه ومن نفسه حين يخسر كل موقف يتطلب منه رداً حاسماً وسريعاً. منذ أسبوع جاءت زينب في متوسط الأربعينيات تطلب الطلاق وتشتكي من حالة نفسية غريبة سببها المعاناة الشديدة في التعامل مع زوجها المتردد حتي في علاقته الخاصة بها فما بالك بتفاصيل عشرين عاماً بينهما بكل تفاصيل الحياة فيها - اقتصرت فيها في بيت الزوجية وندرت فيها أن تمر ببيت العائلة المهجور خاصة بعد موت والديها. الزوجة تعاملت بصبر وأمل مع هذا الزوج أملاً في تحسن الأحوال ولكن بمرور الوقت وتعقد الظروف أصيبت بحالة من الهم والإحباط الشديد والحنق الأشد عليه فأصبح البيت الجميل الرحب أضيق في عينيها من كفة الحابل. - "تصور يا سيدي - أتفه الأشياء وأبسطها لا يستطيع أن يتخذ فيها قرارا وإذا اتخذه غيره مرارا وتكرارا - اليوم كله يمر دون أن ينفذ قرارا واحدا دون هياج ومداورة لشدة توتره وخوفه وكله بسبب التردد. لو لم يكن زواجنا زواج صالونات ولو لم تعجل والدته بهذه الزيجة ما أظن أنه كان أبداً لهذا الزواج أن يتم - أنه يزداد سوءاً كلما تقدم به العمر وكلما تشعبت من حوله الأحداث". - "وهل الطلاق يصلحه؟" "لا شيء يصلح ما فسد.. بدون تفاصيل أصر علي الطلاق". وقد كان - حصلت زينب علي الطلاق وعادت إلي بيت العائلة القديم في الشارع الجديد. طبعاً - كل شيء تغير منذ تركت زينب البيت - الشارع أصبح لا يطاق - العمائر الصغيرة والمنخفضة انقلبت إلي شاهقات متلاصقة فوق العشرة طوابق وابتلعت (حرمة الجار) وكل شبر حولها وتضخمت بواباتها وارتفعت مداخلها وتعددت لافتات السكان علي أبوابها وفي واجهاتها - ففي البناية الواحدة يسكن قاض شرعي ولواء متقاعد ومدرس ثانوي يعمل في الخليج وصاحبة بوتيك في المهندسين ومقاول حديد ثقيل الجيب يتردد علي زوجة ثانية أو ثالثة وفي الواجهة صالون حلاقة ومطعم عراقي لبيع المخبوزات العراقية ومحال مغلقة تحت أيدي السماسرة وأمام العمائر عاطلون في عداد وظيفة (منادي) ومتنطعون علي النواصي يلصقون نواصي رؤوسهم تشبها بالديوك حتي (البوابين) أصبحوا مستوردين من الأفارقة السود أو جنوب السودان. أما المقاهي وخنات الإنترنت فهي الموضة في الشارع الجديد وهي لا تغلق تلفازاتها أربعاً وعشرين ساعة وكيف ومئات الفضائيات تفور بكل ما يخطر علي بال إنسان علم كان أو حلم أو (المحرمات إياها) - في الغالب المقاهي تعرض أحلاماً تطير مع دخان المعسل إلي رئة كل ساكن يختنق أصلاً بعادم السيارات أو سحابة الدخان الأسود والعلم علي المقاهي مبهم في عقول تغيب مع الكيف هنا وهناك آخر الليل. والموضة في الشارع الجديد أن يتحرك زبائن الليل وآخره طولا وعرضا وعليهم سحنة واحدة وتتشابه مآربهم ولا يغادرون الملاهي ولا المقاهي إلا مع الجرذان المنتشرة في الشارع حين يقوم الناس لهثا وراء لقمة العيش. عجيب حال الناس الآن - يثرثون ويكثر لغوهم فيما لا ينفع ولا يضر ويقطعون أميالاً في تصنيف أنواع الغيب ومصائب الأقدار وهم بين الليل والنهار يتكاسلون عن الايجابية أو التغيير ويتمرغون في انتظار تراب (الميري) أبهي سنوات العمر وينكدون علي أنفسهم وعلي أهاليهم حسرة علي العمر الضائع. ويبنون فوق الأعاذير والروايات الواهية عشرات العلالي. والموضة أيضاً أن يرص البني آدم أمامه حواجز الأعاذير لكي لا يفعل أو ليبرر عدم رغبته وقدرته الحقيقية حتي أصبحت هذه الأعاذير كالطاعون الأسود مرضا يأخذ الناس بالجملة. والموضة تطويح الحقيقة المرة من الشباك وهي أن التردد في الناس يصيب الصغير والكبير كما أصاب زوج زينب من قبل قد يكون السبب الحالة العامة الاقتصادية أو الاجتماعية وقد تكون الحالة النفسية المهزوزة هي السبب. ومن الموضة أن يأكل الجهل والأعوجاج طاقة الناس وعقولهم أيام أن تزوجت زينب لم يكن الشارع بهذا السوء ولم يكن زوجها سيئاً كما هو الآن. الآن وهي تري الشارع الجديد وترجع إلي حياتها الملمومة في بيت زوجها تجد أن صبرها علي زوج متردد ربما يكون أرحم مئات المرات من الصبر علي بلاوي الشارع الجديد. في المساء عادت تحمل عدداً من الأرغفة وبعض المشتريات وقد لمحت في عتمة أحد مداخل العمائر الجديدة ظلين لفتي وفتاة تصورا أن الخلوة لهما ميسورة وأن التحرش الجنسي بالتراضي لا يغضب أحداً ولا يعتبر جريمة وأن علي المتضرر غض البصر حتي لو انقلب إلي زنى. المرأة ارتجفت واسقطت ما تحمل - أرادت أن تصرخ من هول الفحش المجترأ - في النهاية هذا شارع يعج بآلاف الأنفس فكيف لا يقتلع أحد عين هذا الفاجر في العتمة الذي ذهب بغرائزه إلي أبعد حد واستهون كبيرة بهذه البساطة وطبعا علي مرأي ومسمع من البعض المستتر علي جرمه. تصببت عرقا كالثلج فوق كل عصب فيها - لم تجمع ما سقط وفوق رأسها صوت غليظ ينهرها أن تقف أو تلتفت ويزيحها عن المشهد. "افسحي السكة وأنت كالداهية في وش الخلق". لم ترد حتي خطت أول خطوة ثم انهارت في بكاء وعويل لم تعرف له مثيلاً لا حين مات أبواها ولا حين خرجت من بيت زوجها. ليلتها لم ترد علي أحد وظلت تراجع ما شاهدت لا تريد أن تصدق ولا تستطيع أن تبلع إهانتها وإهانة كرامتها كامرأة نظيفة علي رصيف مدنس - زينب انتهكت في دينها وعفتها وروعت في حشمتها وكيانها لكل ما رأت وسمعت فإذا كان القانون لا يعتبر الزنى زنى إذا كان بالتراضي ولو في الطريق العام فأين الرجال الجواسر في الشرف والحق - ما الذي حدث في العشرين عاما التي اعتزلت فيها في بيت الزوجية؟! بعد شهر خرجت إلي الشارع وعلي قلبها ألف حجر تقطعه وصولاً إلي المحكمة ومروراً بنفس المكان الذي روعها انتفضت من جديد. في قلبها ألف حسرة وحسرة علي الشارع وأهله. "الاختلاط الآن لا يعرف التصون أو التقوي". في الأتوبيس العام أفخاذ الرجال تستند إلي أفخاذ النساء وصدورهم خلف صدورهن والجميع كقطعة العجين المختمر في الصندوق كتلة واحدة لا تتجزأ ولا تنقطع إذا اندفع الصندوق إلي الأمام أو إلي الخلف. المحكمة لم تكن محكمة بالضبط كانت استعراضا لمتناقضات المجتمع وللزينات وبعثرة للفتنة وتمحيصاً للذمم وسوقاً لشراء شهادة الزور وأصوات تحسبن (حسبنا الله) وحناجر تزغرد وأقدام تدوس أكوام نسوة وعيال علي الأرض وزينب في انتظارها تراجع طوالع السعد والنحس في حياة أهل الشارع الجديد. صوت متشنج يسن قانونا آخر من قوانين الغابة "ياما قلنا النسوة لا مكان لهن إلا البيت". ولا عمل لهن إلا خلفة العيال ولا يصلحن إلا لهذا إذا فلحن فيه - الشرع يقول ذلك والدين يقول ذلك". عجوز علي الأريكة تستشيط غيظاً فتحرك عصاها بعصبية في خطابها لزينب. "مصيبة أخري - كل واحد الآن يجعل من رأيه الخاص ديناً فوق الرقاب (ولسة ياما نشوف)". الرجل يكمل محاضرته لابنه: "ده آخرة من يتزوج بموظفة لا هي ترضي بقليلها ولا يملأ عينها شيء - من الأول لم يكن لك إلا ابنة عمك مستورة وفي حالها - لا تتعالي عليك ولا تفرغ عينها فيك بفرشها". "تذكرت زينب أنها ابنة عم زوجها السابق وأنها لم تفرغ عينها أبداً وامتلأ منديلها بدموع الندم علي عدم صبرها عليه في شدة تردده ولامت نفسها علي باب المحكمة أنها أصرت علي الطلاق وخرجت من البيت الذي كان يحميها من الشارع الجديد ووسخه". في الطريق توقفت لشراء كتاب قديم للشعر قرأت في إهداء الشاعر لمحبوبته: "أيها الحب لا شيء يمحوك - إنت السحر وأنت الفتنة وسواء أكنت شعلة أم مصباحا فأنت الذي تشرق في عيوني وبين أضلعي". فكرت أن تعود المياه لمجاريها خاصة وأن زوجها السابق يوسط بينه وبينها الأهل والأحباب ولكنها تذكرت أن تردده القاتل يقتل كل أمل يمكن أن يقول لها فيه (أحبك) وأن هذا التردد قد اقتلع هذا الرجل من وجدانها فعزفت عن الفكرةولم تشتر كتاب أشعار الحب ولم تتردد