لم يكن للبلد نصيب فى هذا الرجل النظيف العفيف، فهو مبتلى بكثير من النصابين والكاذبين والمدعين وأعضاء «الشلل» العائلية والمنتفعة، أما هو وأمثاله فالأكرم والأفضل لهم الهروب خارج البلاد، فمثلهم فخر لأى بلد يعملون به. لم يحلم هذا الرجل بأى منصب، فبعد تخرجه فى كلية الهندسة اختار الطريق العلمى بعد تعيينه معيداً بالجامعة، فتميز ولفت الأنظار بتخصصه النادر، وواصل تفوقه حتى حصل على الدكتوراة، وصار أستاذاً جامعياً مرموقاً، وعلى الرغم من أنه لم يكن له نشاط سياسى ولم ينضم إلى حزب، مثل كثير من أفراد عائلته المثقفة، فإن علمه الغزير وأفكاره المبتكرة جعلت الحزب الحاكم يستعين به فى لجانه العلمية والمتخصصة فى مجاله المتخم بالأزمات. كان يردد دائماً أن الأزمة فى التخطيط وليست فى الميزانيات، وأن البناء على خطط قديمة يؤدى إلى ترميم ما هو مهتز وقابل للانهيار.. كان يؤمن بالحلول الجذرية الحاسمة، مستنداً إلى تجارب العديد من الدول التى كانت خلفنا بسنوات، فسبقتنا بسنوات. أيام وشهور والدكتور يقدم دراسته واقتراحاته، منتظراً التنفيذ، ولكن البلاد كانت تزداد ازدحاماً وفوضى واصطداماً واحتراقاً، ولا شىء من أفكاره وخططه يخرج إلى حيز الواقع. ولأن الرجل بعيد عن ملاعب السياسة، فلم يفهم ما حدث وكاد يصيبه اليأس حتى فوجئ بتعيينه وزيراً فى الحكومة الجديدة. لم يصدق الرجل نفسه، بل لم يصدق صحف المعارضة وبرامج الهجوم على النظام والحزب وحكومته.. فها هى الفرصة تأتيه، ليس لأنه حزبى أو ضمن شلة أو فاسد، جاءته لأنه متفوق وحالم.. إنه التغيير، البلاد تسير نحو الأفضل.. مصر تغيرت فعلاً. أقسم بينه وبين الله ألا يدخر وسعاً لخدمة وطنه.. بدا متحمساً مندفعاً، فخططه جاهزة لا ينقصها إلا القرار، وها هو صاحبه.. كان واهماً، اكتشف أنه وزير منزوع الصلاحية، فكل قرار يدور فى دهاليز الحزب والحكومة ثم يرتد إليه خائباً مرفوضاً.. ظل شهوراً لا يفهم ما يحدث حوله، وعندما فهم أن القرارات يجب أن تسبقها اتفاقات، وأن المشتريات بالمليارات يجب أن تمر عبر مكاتب استشارية محددة، وأن شركات بعينها هى التى يجب أن تتولى كل عمليات التجديد والإحلال والبناء والهدم حتى لو كانت الجولة أقل والأسعار أكثر.. عندما فهم ذلك لم يقبل، بل ثار واعتقد أنه فساد خفى، فسارع إلى رئيسه يستجير به ويكشف المستور، لكنه فوجئ بمن يقول له: «كبّر دماغك يا دكتور ومشّى المراكب.. خلينا نعيش».. هو لم يكن ميتاً كى يعيش فاسداً، ولا يجيد عمل المراكبية.. فاعترض ورفض ولم يفهم، لذا كان قرار تغييره أسرع مما توقع.. «هو شاطر وفاهم لكن أكاديمى لم يستطع تنفيذ أفكاره»، هكذا كانوا يعلقون على سبب إقالته أو تغييره.. بلاد أخرى قريبة كانت تعرف قيمته، التقطته بعد أيام، تمنحه المال الكثير وتنهل من علمه وتنفذ أفكاره، أما هو فينظر إلى بلاده حزيناً متحسراً صامتاً، فالصمت هو الدرس الكبير الذى تعلمه عندما كان وزيراً!