تناول القرآن الكريم الشخصية اليهودية بعمق وثراء وتنوع، ومن ثم لم يعرضها في إطار وصفي جامد، وإنما عرضها من خلال حركة الحياة وتفاعلها وأحداثها، وبذلك أعطى للناظر إليها متعة التفكير والتدبر في تأملها، كما أعطى مساحة واسعة لشخصيته وتجربته الخاصة في الحياة، دون مسخ او تحويل للحقيقة القرآنية. حول هذا الموضوع يقدم لنا الدكتور مصطفى عبد العاطي غنيم الأستاذ بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر، كتابه المهم: «التصوير القرآني لشخصية اليهودي». في البداية يتحدث المؤلف عن طبيعة الشعور اليهودي موضحاً أن لا يقف على حال واحد نحو الأشياء، فكثيرا ما يتبدل ويتحول، فلا يكاد يقتنع بشيء حتى يتعداه إلى شيء آخر مغاير له، في كل شيء ولقد لمس القرآن الكريم هذا البعد في تصوير اليهود. فقد تحولوا عن عبادة فرعون إلى عبادة الواحد الأحد على يد موسى عليه السلام ثم تحولوا عن عبادة الواحد الأحد إلى عبادة العجل على يد السامري، ومما يدعو إلى التأمل هذا الصدق الذي أبدته النصوص القرآنية في كل عبادة عبدوها، ففي عبادة فرعون نجد هذه الآية الكريمة في سورة الزخرف: «فاستخف قومه فأطاعوه انهم كانوا قوما فاسقين»، وفي سورة الأعراف نجد قوله تعالى: « وقالوا مهما تأتنابه من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين». فالاستخفاف يوحي بذوبان الروح الفرعونية في وجدانهم وتفاعلهم بها، كما أن الشرط في الآية الثانية، يوحي بالقطع والحزم في مصادرة كل عبادة الا عبادة فرعون. وعلى الجانب الآخر فان بعضهم قد آمن بالله الواحد الأحد، بعد ما رأوا ما رأوه في يوم الزينة، بل تفاعلوا وتفانوا في عبادة الله الواحد الأحد، يقول الله تعالى في سورة طه: «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» ، فتأبيد النفي بلن والقسم واستعداد للتضحية، يدل على صدق اليهودي في التفاعل مع عبادته لربه. والذاهل في الأمر ان عبادتهم للعجل كانت بنفس درجة عبادتهم السابقة قال تعالى في سورة البقرة «واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم»، وهذه الصورة حسية تبرز مدى تصور هذا المعبود لديهم، إنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه، كما لا يستطيع لأحد الاستغناء عن شرب الماء، بل صار متفاعلاً في وجدانهم ساريا في مشاعرهم وذلك قمة الصدق في العبادة، مما يؤكد مدى سرعة اليهود في التقلب والتغير. وهذا التقلب والتبدل قد صوره القرآن الكريم في مواطن كثيرة، مثل : «فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون»®. «ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهي كالحجارة او أشد قسوة»®. «فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين». وينتقل بنا المؤلف إلى الحديث عن خصائص الشخصية اليهودية في المرحلة المبكرة، مبينا انها تمثل مرحلة التكوين الحقيقي بكل جوانبها الايجابية والسلبية، فالجوانب الايجابية لها، تتمثل في العودة عن الإثم والندم على اقتراف الخطيئة، وهذا قد يبدو في قوله تعالى في سورة يوسف: «قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا الخاطئين. قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين»®. وفي قوله سبحانه في نفس السورة: «قالوا يا آبانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين. قال سوف استغفر لكم ربي انه هو الغفور الرحيم». أما الجوانب السلبية، فلقد غرست في اليهود وبعض الطباع التي شكلت تطوراً ملحوظاً في سلوكهم ومن هذه الطبائع إلصاق التهم بالآخرين دون تحرر لحقيقة الأمر قصداً او غفالا، فقد اتهموا آباهم بالضلال لحبه إلى يوسف وأخيه دون بقية إخوته، ولم يتحروا الحقيقة في طبيعة هذا الحب، وهل هو يعود إلى فطرة الابوة في الميل إلى الصغير من أبنائه حتى يكبر؟! ولقد أدى هذا الاتهام إلى تنامي صفة أخرى فيهم، تتمثل في محاسبة الآخرين على جرائم لم يرتكبوها فإذا كان يعقوب عليه السلام، هو سبب هذا الميل كما يدعون عليه فهم يعاقبون يوسف على جريمة لم يرتكبها؟!.. فأي جناية ارتكبها يوسف عليه السلام حتى يعاقب بهذا العقاب؟!. . وربما تكون صفة الحسد والكراهية، قد طغت على قلوبهم، وتمكنت من صدورهم وأدت إلى تمكن صفة الانتقام بكل دوافعها في نفوسهم البغيضة، وأدت كذلك إلى ترسب هذا الكم الضخم من العداوة في الشخصية اليهودية. كما تكشف هذه الحقبة عن أسلوب فريد تميزت به إسرائيل في عداوتها مع الآخرين، يقوم على تهجيرهم عن أوطانهم «اقتلوا يوسف او اطرحوه أرضاً». وهنا يتضح ميل اليهود إلى القوة المادية دون القوة العقلية، لحسم مشاكلهم مع الآخرين وربما كان الميل إلى العقل، لا يتفق مع نزعاتهم العدوانية نحو الآخرين. وتمثل هذه الحقبة طابعاً جديداً للجريمة، يمكن ان يدخل تحت مفهوم الجريمة المنظمة، وهو أسلوب في الإجرام، كان له صداه في حياة اليهود بعد ذلك !!. ويستعرض المؤلف خصائص الشخصية اليهودية في مرحلة الاضطهاد، مشيراً إلى ان اليهود استقروا في مصر نحو مائتين وألفين عاما في وادي الطميلات والشرقية إلى ان خرج معهم موسى في حوالي 1300 ق.م، وذلك هربا من اضطهاد فرعون الذي استبعدهم انتقاما منهم، لتعاونهم في خيانة واضحة مع الهكسوس غزاة مصر. وذكر ابن كثير ان فرعون فعل ذلك، خوفا من ان يخرج غلاماً فيهم، يكون هلاكه على يديه، ولا مانع من وجود الأمرين معا، وربما عاقب فرعون اليهود عقابا غير متكافئ مع جريمتهم وصل إلى حد قتل الأنبياء واستحياء النساء، وفي هذا ابادة عرقية للجنس بأسره، وهذا افساد في الارض كبير، ويصور القرآن الكريم ذلك في سورة القصص قائلاً: «ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين. ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون». لقد قام فرعون بتفريق اليهود إلى طوائف وأحزاب، ثم عمل على إبادتهم إبادة عرقية وأخلاقية ولقد كان لهذه المرحلة، أثرها في وصم اليهود بالتحقير والإذلال والإهانة والشعور بالضعة والهوان، ومما يدل على ذلك قوله تعالى في سورة القصص: «ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه». لقد كان القبطي او المصري يقوم بإذلال احد اليهود واحتقاره وتحميله من الأحمال ما هو فوق طاقته حتى نفد صبره، فنادى على موسى عليه السلام ضجرا مما يتجرعه. ومما يدل على تمكن حالة الضعة والإذلال وانطواء اليهود على صفات سيئة كثيرة نتيجة ذلك، ما فعله هذا اليهودي الذي أغاثة موسى، فقد ورط موسى في جريمته وكشف أمره على الملأ، ولم يحفظ له سره الذي كان سببا فيه: «قال يا موسى أتريد ان تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ان تريد إلا ان تكون جباراً في الأرض وما تريد ان تكون من المصلحين». لقد ظهر في هذه المرحلة بعض ظواهر هذه الشخصية مثل استعدادها للانقسام على نفسها إلى طوائف واحزاب، وبهذا الانقسام وحده استطاع فرعون ان يصل إلى وقوع مثل هذه الجرائم عليهم. ومن الصفات الهامة استسلامهم لهذا العذاب الأليم فلم يفكروا في مقاومة فرعون، اما الهروب من مصر إلى اي مكان آخر، وانما رضخوا لهذا العذاب المهين حتى كادت ذريتهم ان تنقرض من الوجود، حتى مّن الله عليهم بموسى عليه السلام ليخلصهم من هذا العذاب. ويتوقف المؤلف بنا أمام سمات الشخصية اليهودية في مرحلة الخلاص والخروج مؤكدا ان اليهود وصلوا إلى درجة كبيرة من الرعب والخوف، وكادوا ان ينقرضوا، فمّن الله عليهم بموسى عليه السلام، لقد كان موسى منهم، ولكنه تربى في بيت فرعون -كما قدر الله له- حتى يطلع علي خباياه، وهو صغير ، فيراه على طبيعته البشرية، ويدرك أسلوبه في طي خصومه، وفي ذلك ما يعينه على ازالة ملكه.