الحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ، ما لا يجتهد في غيرها عن عائشة ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره " البخاري ومسلم - زاد مسلم وجَدَّ وشد مئزره . وقولها " وشد مئزره " كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ، ومعناه التشمير في العبادات . وقولهم " أحيا الليل " أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها . وقد جاء في حديث عائشة الآخر رضي الله عنها : " لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القران كله في ليلة ولا قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان" سنن النسائي (1641) فيحمل قولها " أحيا الليل " على أنه يقوم أغلب الليل . أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل . وقولها : " وأيقظ أهله " أي : أيقظ أزواجه للقيام ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة ، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : " سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ! ماذا أُنزل من الخزائن ! من يوقظ صواحب الحجرات ؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " البخاري (1074) وفيه كذلك أنه كان عليه السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري (952) . لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة . وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه ، ومبادرته الأوقات ، واغتنامه الأزمنة الفاضلة . فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الأسوة والقدوة ، والجِدّ والاجتهاد في عبادة الله ، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي ، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل امرئ إذا جاء أجله ، وانتهى عمره ، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم . ومن العظات والعبر التي نخرج بها من تلك الأيام والليالي .. 1- النفحات التي نتعرض لها عسي أن تصيبنا نفحة فلن نضل بعدها ولانشقي فقد فضل الله عز وجل لعض الأمكنة علي بعض ففضَّل الله تعالى مكة على سائر البقاع، وفضل بعض الأزمنة علي بعض ففضل زمن رسول الله علي غيره من الأزمنة وفضل بعض الشهور علي بعض ففضل شهر رمضان علي سائر الشهور وفضل بعض الأيام علي بعض ففضل يوم الجمعة علي سائر الأيام كما فضل العشر الأواخر من رمضان علي سائر الأيام .. كما فضل العشر الأول من شهر ذي الحجة .. لماذا هذا التفضيل للأيام ؟ هذا يتجلي لنا في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم : "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً" 2- القراءة والاطلاع .. ومن العظات والعبر التي نخرج بها من هذه الأيام المفضلة وليلة القدر .. القراءة والاطلاع والتعلم ويتجلي ذلك في أن هذه الليلة نزلت فيها أو كلمة من كتاب الله عز وجل ..:"اقرأ باسم ربك الذي خلق .. فالمولي عز وجل يلفت نظركل مسلم إلي أمر هام ألا وهو العلم :" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب " وقال صلي الله عليه وسلم :"فضل العالم علي العابد كفضلي علي أدناكم رجلاً أو كفضل القمر علي سائر النجوم " والعلم نور وخير الناس يطلبه**** والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً **** الناس موتي و أهل العلم أحياء فالعلم والتعلم يوسع مدارك الإنسان ويجعله يميز بين الأشياء وبين الحسن والقبيح والنافع والضار .. فلا يسير مع الذين يسيرون في القطيع لذلك قال صلي الله عليه وسلم :"كن عالماً أو متعلماً ولاتكن إمعة " وقال صلي الله عليه وسلم :" لا يكن أحدكم إمعة إذا أحسن الناس أحسن وإذا أساءوا أسأ ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أن تحسنوا وإذا أسأوا أن تجتبوا أسأتهم " الترمذي . فالاطلاع والعلم أمر به المولي عز وجل في أول كلمة نزلت ليلة القدر .. ليلفتنا أن القراءة مهمة والقراءة في جميع المجالات وشتي العلوم وليس الاقتصار علي علم واحد أو كتاب واحد كما يفعل البعض اليوم فيقتصر علي علوم معينة وكتب معينة ويظن أن هذا هو العلم .. ولكن ينبغي علي المسلم الغير متخصص في العلوم أن يكون علي الأقل مثقفاً ..والثقافة هي الأخذ من كل علم بحدة ". 3- حب المجتمع ونبذ العنف والبغض . ومن المعاني السامية والعظة والعبرة التي نخرج بها من هذه الليلة أن نوطن أنفسنا علي حب المجتمع كله فحب المؤمن لأخيه فرض لأنه مرآة له قال صلي الله عليه وسلم :" مقل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " ويقول صلي الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ويقول لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم علي شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " فسلامة الصدر من الأحقاد علمها لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم وحثنا عليها ويتجلي ذلك في قول السيدة خديجة ليلة القدر عندما عاد رسول الله صلي الله عليه وسلم من غار حراء بعد أن نزل عليه أمين الوحي جبريل يأول كلمة :"اقرأ وهو يقول ما أنا بقاري ..ويكررها له ثم يقول له اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم " وعاد إلي بيته ترتعد فرائصة ويقول زملوني زملوني دثروني دثروني فتحتضنه أم المؤمنين خديجة وتقول له :" والله لن يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين علي نوائب الحق " وهذه هي علامات حب الناس إنك لتصل الرحم وصلة الرحم من الأمور الهامة في المجتمع المسلم لأن قطع الأرحام يؤدي إلي التنابذ والتناحر وتفتيت المجتمع لذلك توعد المولي عزوجل قاطع الرحم بقوله :" فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم"(محمد/22). و عن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت رسول الله - - يقول : (قال الله تبارك والله : أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرَّحِم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتَتُّه" صلة الرحم تدل على الأيمان بالله واليوم الآخر: عن أبي هريرة قال قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) رواه البخاري صلة الرحم سبب لزيادة العمر وبسط الرزق عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) رواه البخاري وقيل : إن معنى زيادة العمر وبسط الرزق أن يبارك الله في عمر الإنسان ورزقه فيعمل في وقته ما لا يعمله غيره فيه. - صلة الرحم تثمر الأموال وتعمر الديار عند أحمد ورجاله ثقات عن عائشة ا : ((صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)) رواه أحمد - أن قاطع الرحم لا يدخل الجنة : في الحديث المتفق عليه عن جبير بن مطعم أن النبي قال : ((لا يدخل الجنة قاطع)) رواه البخاري وقال صلي الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا انقطعت رحمه وصلها " **وحب المجتمع يتجلي عند رسول الله صلي الله عليه وسلم في قول عائشة :"وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين علي نوائب الحق " أي أنك تعين صاحب الأعباء الثقيلة وتعينه علي أعباء المعيشة وتكون مرآة له وتنصر المظلوم ..وهذه الخصال التي تفوهت بها السيدة خديجة لتصف بها النبي صلي الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة لجديرة بالتكريم والتعظيم .. وما أحوج مجتمعات الإسلام لهذه المعاني التي تحمل معني الحب والإيمان التي تجعل المجتمع كله أسرة واحدة .. 4- الإصلاح بين المتخاصمين ومن المعاني السامية والعظات والعبر التي نخرج بها من العشر الأواخر وليلة القدر هو الإصلاح بين المتخاصمين ونبذ الشجار والخلاف لأن الخلاف والفرقة من الأمور التي تقوض الأمن والاستقرار في المجتمع ومن الأمور التي تذهب الخير والثواب والعلم ويتضح ذلك من حديث في صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى ( أي تخاصم وتنازع ) رجلان من المسلمين ، فقال : ( خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة "أي في الأوتار . (البخاري) . وفي هذا الحديث دليل على شؤم الخصام والتنازع ، وبخاصة في الدِّين وأنه سبب في رفع الخير وخفائه . ويقول تعالي :" ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " أل عمران – التسامح ثم التسامح ثم التسامح ... عودوا أنفسكم على مسامحة من أخطأ إليكم لأن التسامح له طاقة إيجابية كبيرة تجعل الشخص يعيش في حالة سلام مع النفس ، كما أن التسامح يطفئ نار الغضب ورغبة الانتقام لذلك فإنه يعيد التوازن النفسي للشخص ويزيح عبئاً كبيراً على الجسد والنفس. ولنتذكر دائماً بأن المناسبات العظيمة مثل الأيام التي نعيشها الآن هي فرصة كبيرة للمبادرة في الصلح وبدء صفحة جديدة من العلاقات الأسرية والاجتماعية التي يسودها الوئام والود ، ولابد أن ننبذ ثقافة التعنت والعناد فإن حياتنا على هذه الأرض ليست أبدية ولا نعلم أنه قد يمدنا العمر لكي نشهد رمضاناً آخر بعد هذا العام ، فلماذا الاستمرار في الخصام والقطيعة ونحن كلنا عن هذه الحياة راحلون ، إن الشخص القوي هو الذي يلجم الغضب ويبادر بالإصلاح ويكون مثالاً حياً للشخصية الإيجابية التي تنشر الحب والسلام بين أفراد الأسرة والمحيطين من الأصدقاء والمعارف ، والتي تعلو البسمة محياها للقريب والغريب ، والتي لا تعرف الخصام والشقاق طريقاً إليها أبداً مهما اشتدت الخلافات وعصفت بها رياح المشكلات. لذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول :" ألا أدلكم علي ما هو أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلي يا رسول الله قال :" إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هو الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " 5- السلام والأمن النفسي والاجتماعي ومن المعاني السامية والدروس والعبر التي نخرج بها من هذه الليلة هو السلام والأمن النفسي والاجتماعي الذي ينبغي أن يسود الجميع ..ويتجلي ذلك في قول المولي عز وجل :"سلام هي حتى مطلع الفجر " الأمن والأمان نعمة من الله عزوجل مابعدها نعمة فهي من أجل نعم الله علي بني خلقه لأن الإنسان إن لم يكن في أمن واستقرار وطمأنينة لا هنأ بعيش ولا ينعم بحياة.. حيث ذكر الله عزوجل الأمن علي لسان خليل الله إبراهيم في القرآن الكريم أكثر من مرة فتارة: يقدمه علي الرزق: فيقول تعالي:"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.."(البقرة/126). هذا هو الدعاء الأول ,قال ابن كثير:"اجعل هذه البقعة بلدا َأمناَ,وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة .. وتارة يقدمه علي العقيدة: فيقول تعالي:"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ"(إبراهيم/35). وناسب هذا هناك ,وكأنه وقع دعاء في مرة ثانية بعد بناء البيت ,واستقرار أهله به بعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناَ من إسماعيل .(ابن كثير 1/251). وتقديم خليل الله إبراهيم في دعائه نعمة الأمن علي غيرها من النعم لأنها أعظم أنواع النعم ولأنها إذا فقدها الإنسان اضطرب فكره وصعب عليه أن يتفرغ لأمور الدين أو الدنيا بنفس مطمئنة ، وبقلب خال من المنغصات المزعجات . وأيضاَ قدم طلب الأمن للبقعة التي وضع فيها هاجر وإسماعيل قبل طلب الرزق ,لأن الأمن مقدم علي الرزق ,وظلت مكة تنعم بالأمن ببركة دعوة الخليل حتي جاءها رسولنا صلي الله عليه وسلم وهم علي شركهم ,والله يؤمنهم ,ولما دعاهم الرسول إلي الإسلام خافوا من إتباعه أن يفقدوا هذا الأمن ,فعاب الله سبحانه عليهم ذلك كيف يؤمنهم وهم علي شركهم ولا يؤمنهم إذا اتبعوا الرسول صلي الله عليه وسلم :"وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"(القصص/57). كما قدم المولي عز وجل نعمة الأمن علي الهداية: فالمؤمن الموحد بالله يركن إلي ركن شديد ,فلا يخاف ,فهو في أمن دائم ,وهو الأحق بالأمن ,لأنه يعلم أنه سوف يحصل علي إحدى الحسنيين :النصر أو الشهادة,وهو لم يجعل لربه نداَ ولا شريكاَ ولا شبيهاَ ولا نظيراَ قال تعالي:"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ "(الأنعام/82). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لما نزلت الآية شق ذلك علي الناس ,وقالوا يا رسول الله ,أينا لم يظلم نفسه ؟قال :إنه ليس الذي تعنونه ,ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح :"يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "إنما هو الشرك ".(البخاري). والمؤمن وإن كان في أمن إلا أنه يسعي أيضاَ لتحصيل أسباب الأمن ,ولا يفرط في هذه الأسباب فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عائشة قالت : " سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة قال ليت رجلاَ صالحا يحرسني الليلة قالت فبينا نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة السلاح فقال من هذا فقال سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك فقال سعد وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام "(قال الترمذي: حسن صحيح). وكان النبي صلي الله عليه وسلم يُحرس حتي نزلت الآية في المائدة,عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية { والله يعصمك من الناس } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله "(الترمذي). فالمؤمن آمن ويؤمن إخوانه المؤمنين ما استطاع إلي ذلك سبيلاَ,وهذا هو قول يوسف الصديق لإخوته :" ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"(يوسف/99).أي :آمنين من المكاره والقحط ومن السوء,وكان دخولهم مصر بركة لأهلها وزاد من أمنها قال ابن كثير:"إن الله رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم,كما رفع السنين التي دعا بها رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أهل مكة حين قال :"اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ."(متفق عليه).ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه ,وأرسلوا أبا سفيان في ذلك فدعا لهم,فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه عليه السلام .(ابن كثير 2/660). كما قدم المولي عزوجل الأمن من الخوف :علي الجوع والفقر وموت الأهل والأحبة وتلف الزروع والثمار فقال تعالي :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"(البقرة/155-157). والمعنى : ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع ، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات ، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون ، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة ، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله - تعالى - .(الوسيط د/سيد طنطاوي). الأمن مقدم علي الصحة: قال الإِمام الرازي:"سئل بعض العلماء : الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال الأمن أفضل ، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ولا يمنعها هذا الكسر من الإِقبال على الرعى والأكل والشرب . ولو أنها ربطت - وهى سليمة - فى موضع ، وربط بالقرب منها ذئب ، فإنها تمسك عن الأكل والشرب ، وقد تستمر على ذلك إلى أن تموت . وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف ، أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد . لذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :"من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"(الترمذي وصححه الإلباني). وقرن المولي عزوجل الإطعام والأمن: فمن البديهيات التي لا يختلف عليها العقلاء؛ أنه لا يمكن أن تقوم حياة إنسانية كريمة إلا في ظلال أمنٍ وافرٍ، يطمئن الإنسان معه على نفسه وأسرته ومعاشه، ويتمكَّن في ظله من توظيف ملكاته وإطلاق قدراته للبناء والإبداع، وقد جمع الله في الامتنان على قريش بين نعمتَي الأمن والإطعام؛ ليبيِّن أن إحداهما لا تقلُّ أهمية عن الأخرى، ولا تُغني عنها،وأمرهم الله سبحانه وتعالي أمراَ جازماَ بالتوحيد ومتابعة النبي صلي الله عليه وسلم ,وأن ذلك أقل ما يكون في مقابلة نعمة الأمن التي يشعرون بها دون غيرهم من العرب فقال تعالى:"فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ"(قريش/4,3).). وقرن النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان بالأمن: فقال صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ" (الترمذي وصححه). المسلم الحقيقي الذي تظهر عليه آثار الإسلام وشعائره وأماراته، هو الذي يكف أذى لسانه ويده عن المسلمين، فلا يصل إلى المسلمين منه إلا الخير والمعروف..