في الشرق الأوسط، لا شيء يحدث صدفة، ولا تحالف يدوم لوجه الله. كل اتفاقٍ له حساب، وكل تقاربٍ له ثمن. المنطقة تعيش منذ سنوات حالة من «إعادة الترتيب»، تُشبه رقصةً معقّدة بين خصوم الأمس وحلفاء اليوم، تتحكم فيها إيقاعات السياسة الأميركية التي تمسك بالخيوط وإن من وراء الستار. في ظاهر المشهد، تبدو التحالفات الجديدة وكأنها تسعى إلى الاستقرار، من الاتفاق السعودي الإيراني، إلى الانفتاح التركي العربي، إلى محاولات احتواء الأزمات في البحر الأحمر والخليج. لكن خلف هذا الهدوء الظاهر، تتخفى شبكة مصالح متشابكة، تتحرك وفق ميزانٍ دقيق من الضغوط والتنازلات، ترسمه واشنطن بدقةٍ منذ عقود. فحتى عندما تبتعد أميركا ظاهريًا، يظلّ حضورها قائمًا عبر أدواتها الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية، تُدير اللعبة من بعيد، وتُغيّر قواعدها متى شاءت. التحالفات الإقليمية لم تعد قائمة على الأيديولوجيا كما كانت في زمن الحرب الباردة، بل على المصلحة المجردة. اليوم، يتقدّم الاقتصاد على الشعارات، والطاقة على العقيدة، والسلاح على المبادئ. فحين تتبدّل موازين القوى العالمية بين واشنطن وبكين وموسكو، تتبدّل خريطة الولاءات في الشرق الأوسط تبعًا لذلك. من يبحث عن حماية يجدها في القواعد الأميركية، ومن يبحث عن نفوذٍ اقتصادي يمدّ يده نحو الصين، ومن يسعى إلى هامش استقلالٍ أكبر يغازل روسيا، في مشهدٍ يُشبه سوقًا ضخمة للمصالح، لا مكان فيها للعواطف أو الثوابت. مصر، كعادتها، تقف في موقعٍ بالغ الحساسية. فهي ليست مجرد دولة ضمن رقعة الشرق الأوسط، بل مركز توازن بين محاوره. تدرك القاهرة أن الانحياز الكامل لأي محور يعني خسارة الآخر، وأن الحفاظ على «الحياد الإيجابي» هو السبيل الوحيد لحماية مصالحها القومية. لذلك تنتهج دبلوماسية هادئة، تحافظ على جسور التواصل مع الجميع، وتشارك حين يجب أن تشارك، وتنسحب حين يقتضي الأمر الانسحاب، دون أن تفقد مكانتها أو دورها التاريخي في صياغة معادلات المنطقة. لكن مع تصاعد أزمات الطاقة، واحتدام الصراع بين القوى الكبرى على الممرات المائية، تبدو رقصة التحالفات أكثر جنونًا من أي وقتٍ مضى. فكل خطوة محسوبة، وكل إيماءةٍ تحمل رسالة. من يراقب المشهد يظن أنه عشوائي، لكنه في الحقيقة مرسوم بإتقان: خيوط المصالح تلتفّ حول الجميع، والمظلة الأميركية ما تزال ممدودة فوق الرؤوس، وإن اختلف شكلها ولونها. في النهاية، الشرق الأوسط لا يعيش «تحالفاتٍ» بقدر ما يعيش «تفاهماتٍ مؤقتة»، تتبدل بتبدّل الرياح الدولية. وربما لهذا السبب، تظلّ المنطقة في حركةٍ دائمة، لا تستقر على حال، ولا تثبت على ولاء. فطالما أن القوة هي الحكم، والمصلحة هي المعيار، سيبقى السؤال معلّقًا: هل يمكن أن ترقص دول المنطقة بإيقاعها الخاص، أم سيبقى الإيقاع أميركيًّا مهما تغيّر العازفون؟