عند التعرض لمصطلح "مراكز القوى"، على الفور، تقوم الذاكرة والوعي الجمعي للمصريين، باستدعاء مشهد صراع الرئيس الراحل محمد أنور السادات، مع مراكز القوى التي شكلتها مجموعة من المسؤولين الناصريين، عقب وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكانوا يتمتعون بسلطات واسعة ونفوذ كبير، وشكلوا وقتها تهديداً لاستقرار حكم "السادات" وتقييداً لحركته وقراراته، فما كان من "السادات" إلا أن قام بدوره بالتخلص منهم جميعاً، فيما عُرف وقتها بثورة التصحيح في 15 مايو عام 1971. هنا لابد من التأكيد على شيء مهم، وهو أنه يُخطئ من يظن، أن السادات رحل، ورحلت معه مراكز القوى، ويخطئ أيضاً من يظن أن مراكز القوى، تتشكل فقط داخل بيئة سياسية، أو حول نظام حكم. على العكس تماماً، فهي كانت ولا زالت وستستمر موجودة "شكلاً وموضوعاً"، قبل وخلال وبعد "السادات"، وفي السياسة والاقتصاد والتجارة والاجتماع، وغيرهم، إنها موجودة حولنا في كافة الأنحاء والمجالات. إن وجودها لن يقتصر على نظام حكم هنا أو هناك، أو حزب سياسي يمثل أغلبية أو حتى أقلية، بل تمتد لتكون حاضرة وفاعلة ومؤثرة، في كل كيان وكل مؤسسة، وكل شركة، صغيرة كانت أو كبيرة، سواء كانت تعمل في تقديم منتج خدمي أو سلعي، في شأن عام أو خاص، في نشاط تطوعي أو نشاط هادف للربح، إنها "زماكنية" موجودة وستستمر مكانياً وزمانياً. طالما أن هناك كياناً "هرمياً" له قمة على رأسها شخص يمسك بتلابيب "سلطة" ومن ورائه قواعد متدرجة حتى قاع الهرم، أينما وجد هذا الكيان الهرمي، يخرج من رحمه "قيصرياً أو طبيعياً"، "مراكز القوى" تحيطه وتستحوذ عليه، تشاركه صناعة القرار وتوجيه دفة القيادة، سواء بإرادته أو رغماً عنه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو، كيف تتشكل مراكز القوى، ومن أولئك الذين يسجلون أسماءهم في دفتر حضورها؟! تتشكل مراكز القوى وتتمتع بنفوذ وتأثير كبيرين، وذلك من الفئات التالية: 1- "القيادات العليا" داخل الكيان الهرمي: مثل كبار المسؤولين أو المديرين الذين يمتلكون سلطة واسعة في اتخاذ القرارات، مثل مديري القطاعات المالية والقانونية والتعاقدية (مطبخ صنع القرار). 2- "الدوائر أو الأقسام الفاعلة": التي تمتلك خبرة أو موارد خاصة تجعلها تسيطر على جوانب معينة من العمل. 3- "العلاقات الشخصية، القرابة": كأن تجمعك صلة قرابة برئيس هذا الكيان أو تربطك به علاقة صهر ونسب. 4- "حملة المباخر": هم أولئك الحزمة المنافقة المتسلقة الذين يتوددون لكسب ثقة القيادات العليا، يتملقونهم ويمدحونهم، ويكون لهم ما يريدون. 5- "أصحاب اليد الطولى": وهم النافذون لقيادات أعلى من رؤسائهم أنفسهم، يستمدون قوتهم داخل الكيان الذي يعملون فيه من علاقاتهم الخارجية الواسعة، التي يُعمل لها ألف حساب. إن مراكز القوى تولد من مجموعة من الأشخاص بمرجعيات مختلفة ولا يتجاوز عددهم داخل الكيان الهرمي أصابع اليدين، وهم معلومون للكافة، ولا أدل على ذلك من تلك العبارات التي تتكرر داخل بيئة العمل على مدار الساعة مثل: ("هذا محسوب على فلان" – "هذا من رجالة فلان" – "ابعد عن فلان، وإلا أنت تقف أمام القطار" – "فلان كلامه مسموع" – "فلان ملمس فوق" - ... إلخ). "فلان" هنا هو أحد مراكز القوى داخل تلك المؤسسة وهو معلوم، ويبتغى إرضاؤه أو تجنبه. وهنا سؤال آخر يطرح نفسه، ما هي خطورة مراكز القوى؟ خطورتهم تكمن في كونهم يتحكمون بمصائر المئات أو الآلاف من القواعد المتدرجة داخل النظام الهرمي، يؤثرون سلباً على سير ومنظومة العمل، يتصارعون بينهم أحياناً ويتحدون في بعض الأحيان... وفي الأخير هناك فاتورة لهذا الصراع وذاك الاتحاد، تدفعها المؤسسة وبقية العاملين فيها، ويمكن اختصار مظاهر تلك الخطورة فيما يلي: 1- تعطيل العمل المؤسسي: إذ قد تتسبب مراكز القوى في تجاوز السلطات الرسمية، مما يعرقل سير العمل وينتج عنه ضعف الفاعلية والكفاءة في تحقيق الأهداف الرسمية. 2- تراجع الشفافية والمساءلة: إذ قد تصبح القرارات غير واضحة أو غير مسؤولة أمام المؤسسات الرسمية، مما يهدد النزاهة والعدالة. 3- إضعاف الديمقراطية: عندما تسيطر مراكز القوى على القرار، قد يُحرم الطرف الآخر من فرصة المشاركة والتأثير، مما يقلل من مشاركة الموظفين أو السياسيين الفاعلين والمهنيين. 4- الفساد والمحسوبية: قد تؤدي مراكز القوى إلى استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية أو فئوية على حساب المصلحة العامة. 5- إضعاف المؤسسات: عند تشرذم القرار وتداخل النفوذ، قد تتراجع قدرة المؤسسة على إدارة الأمور بشكل كفء ومرن. وأخيراً لابد وأن نعترف أن مراكز القوى، ورغم سوءاتها، إلا أنها ستستمر، وأن ما يمكننا عمله في مواجهتها هو الحد منها وتقليل فاعلياتها، وهذا لن يحدث إلا إذا أحسنا اختيار القيادات، بحيث تكون كفؤة ومهنية وقوية تتعامل مع "الكرسي" على أنه مسؤولية ومغرم وليس مغنم، وألا يخشى في الحق لومة لائم، لأنه إذا صلح "رأس الهرم" صلحت قواعده.. إذا صلح رأس الهرم... فلا مجال لمراكز القوى ولا أصحاب النفوذ.