يمكن تفسير عدم اليقين في سياسة الإعمار بالإشكاليات المرتبطة بصوغ سياسات إعادة الإعمار بمعزل عن السياق السياسي الأوسع. فمع التسليم بتعدد المجالات التي تستهدفها سياسات إعادة الإعمار بدءًا من البنية التحتية ومرورًا بالهندسة الديموغرافية لتشكيل علاقة قطاع غزة بباقي الأراضي الفلسطينيةالمحتلة التاريخية لكسر العزلة المفروضة على كل من قطاع غزة والضفة الغربية منفردين، وانتهاءً بالأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. إن إعادة الإعمار لا تقتصر فقط على الأبعاد المادية، بل تشمل أيضًا إعادة التعافي للبشر وترميم النفس والحياة الفلسطينية، والتأكيد على حيوية وفعالية الشعب الفلسطيني. هذا الأمر يُواجَه بتحديات جسام في مقدمتها استمرار الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي الذي يعيد إنتاج العنف عبر الإبادة البشرية والعدوان العسكري والحصار الاقتصادي والإلغاء الاجتماعي والثقافي. لقد أشارت تقارير صادرة عن الأممالمتحدة إلى أن اقتصاد قطاع غزة بعد حرب السابع من أكتوبر 2023 قد يحتاج إلى 350 سنة لاستعادة مستوياته لما قبل الحرب! ولا ينحصر الأمر في الجوانب الاقتصادية، بل يمتد إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية المرتبطة بمحو تاريخ القطاع وزعزعة ارتباط سكانه – خارج النازحين في مخيمات الشاطئ وغيرها – بجذورهم التاريخية، بالإضافة إلى تعميق عزلة غزة المنكوبة عن محيطها الفلسطيني الآخر المحتل. وبالتالي من الصعب النظر إلى قضية إعمار غزة بصفتها مشروعًا هندسيًا، استثماريًا وعقاريًا، بل يستدعي الأمر النظر إلى إعادة الإعمار باعتبارها مشروعًا سياسيًا قانونيًا يُمكّن شعب فلسطين، ومنه شعب غزة، من ضمان عدم تكرار أنماط التدمير والتهجير التي شهدها. وبالنظر إلى تجارب الإعمار السابقة في غزة، تتضح حتى معضلات التعامل مع موضوع البناء. فصحيح أنه منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع في 2005 تم تنفيذ العديد من الإنشاءات وبعض الخطط التنموية، إلا أنها كانت مجتزأة ومعطلة بسبب العدوان العسكري الإسرائيلي المتكرر على القطاع، الأمر الذي تسبب – في كل مرة – في تراجع القطاع تنمويًا ما بين 10 إلى 25 سنة للوراء. فبالنسبة للفلسطينيين، فإن القضية ليست مجرد قضية إغاثة أو تلقي مساعدات لحين سماح قوات الاحتلال والمجتمع الدولي ببدء عمليات إعادة الإعمار، وإنما تتبدى الإشكالية في كيفية إعادة تعريف العلاقة بين السكان وفضائهم الجغرافي والاجتماعي في ظل واقع جديد. إن إتمام ونجاح إعادة إعمار قطاع غزة يرتبط، وفقًا لرؤى العديد من الباحثين الفلسطينيين، بالإجابة على سؤال متعلق بالهدف من تدمير القطاع، حيث كان الهدف هو محو الذاكرة التاريخية والمعاصرة للقطاع من خلال إبادة أهله وتهجير ما تبقى منهم قسرًا وعنوة. وبالتالي، لا بد أن تستند رؤية إعادة الإعمار إلى إحياء تلك الذاكرة والحفاظ عليها، وضمان استقلاليتها، بل تقويتها لتصمد أمام مخططات الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني. في الجزء الثالث سيتم تناول طبيعة مشاريع إعادة الإعمار المقدمة والمقترحة والإشكاليات المرتبطة بها.