في لحظة يترقبها العالم، لا تبدو مصر فقط على موعد مع افتتاح أحد أكبر متاحف التاريخ الإنساني، بل مع اختبار أعمق بكثير، كيف يمكن أن تتحول الحضارة ذاتها إلى أداة اتصال، وكيف يمكن أن يصبح حدثٌ تاريخي، مثل افتتاح المتحف المصري الكبير، نقطة انطلاق لإعادة بناء العلاقات العامة المصرية كمنظومة وطنية واعية بذاتها وبصورتها أمام العالم. لسنواتٍ طويلة، كانت العلاقات العامة في مصر تدور في دائرة مغلقة، تتحدث إلى الداخل بلسانٍ رسمي جاد، وتخاطب الخارج بخطابٍ لا يختلف كثيرًا عن المنشورات الحكومية القديمة، خطاب يصف ويُخبر ولكن لا يُقنع، يردّ على الأحداث أكثر مما يصنعها، لكن العالم تغيّر، ومصر تغيّرت، والمشهد الاتصالي لم يعد يقبل بالردود السريعة، بل ينتظر من الدول رؤية اتصال تُجسّد شخصيتها وهويتها ووعيها بذاتها. اليوم، ونحن أمام حدث ضخم بهذا الحجم، تملك مصر فرصة تاريخية لتعيد تعريف نفسها عبر نموذج جديد للعلاقات العامة، لا يقوم على "الدعاية الوطنية"، بل على بناء سردية وطنية حديثة، تجعل من الاتصال مشروعًا وطنيًا وليس وظيفة مؤقتة، فالمتحف المصري الكبير لا يُقدّم فقط آثارًا تعود لسبعة آلاف عام، لكن يقدم للعالم صورة عن مصر الجديدة، دولة تعرف كيف تُحوّل تاريخها إلى لغة معاصرة، وكيف تُعيد تقديم نفسها للعالم بوصفها حضارة حية متجددة. إعادة بناء العلاقات العامة المصرية قضية وعي ووجود، فنحن بحاجة إلى الانتقال إلى موقع المبادرة، وصناعة الهوية، وهذا لا يتحقق إلا حين نؤمن أن العلاقات العامة ليست إدارة بيانات، بل إدارة انطباعات ومعانٍ، وأن الاتصال الفعّال يبدأ من الداخل من الثقة بين الدولة ومواطنيها، من وضوح الخطاب، ومن وجود سرد وطني متماسك يربط بين ما نقوله وما نفعله. لكن لكي يتحقق هذا، لابد أن تتحوّل العلاقات العامة إلى منظومة وطنية حقيقية، منظومة تُشارك فيها مؤسسات الدولة والجامعات والإعلام والمجتمع المدني، لتبني معًا خطابًا وطنيًا متسقًا، قاءم على الشفافية والوضوح والمصداقية، فالصورة لا تُصنع بالحملات الإعلانية والمديح، ولكن بالفعل المستمر، وبالقدرة على تحويل الإنجاز إلى قصة إنسانية حقيقية يفهمها العالم ويحترمها، فالعلاقات العامة في مفهومها الحديث منظومة فكرية وثقافية وإدارية تسعى إلى تحقيق التكامل بين مؤسسات الدولة والمجتمع، من أجل بناء الثقة المتبادلة، وتعزيز الانتماء الوطني، وصناعة صورة ذهنية متوازنة وواقعية عن مصر. في عالم تتغير فيه مفاهيم القوة والتأثير تبدأ صناعة العلاقات العامة المصرية من فهم الذات الوطنية، أي من إعادة تعريف "من نحن" ، فالقوة لم تعد تُقاس فقط بما تمتلكه الدول من موارد اقتصادية أو قدرات عسكرية، بل أصبحت تُقاس أيضًا بقدرتها على إدارة صورتها وسمعتها، وبناء انطباع مستدام لدى الداخل والخارج، من هذا المنطلق، يصبح الدور الحقيقي للعلاقات العامة المصرية هو بناء الثقة بين المواطن والدولة، وترسيخ المصداقية عبر خطاب وطني موحّد يُبرز الإنجازات، ويعالج التحديات بروح من الشفافية والعقلانية دون تهويل أو تزييف، فقط الحقيقة. لا نتحدث هنا عن نشاط تابع لإدارة إعلامية، أو عن تداخل في اختصاصات الهيئة العامة للاستعلامات، بل عن مشروع دولة يهدف إلى تنسيق الجهود الاتصالية على المستويين الداخلي والخارجي، فكل مؤسسة داخل الدولة من الوزارات والهيئات إلى الجامعات والشركات تمثل عنصرًا في المنظومة الاتصالية العامة لمصر، تُسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في صياغة الصورة الوطنية، ومن ثمّ، لا يمكن لأي مؤسسة أن تعمل بمعزل عن الأخرى؛ لأن "الصورة الوطنية" ليست ناتجة عن خطاب واحد، لكن عن مجموعة أصوات متناغمة تشترك في هدف واحد هو بناء الهوية الاتصالية المصرية الحديثة. ولكي تنجح هذه الصناعة، لابد أن تقوم على أسس علمية ومؤسسية واضحة، أولها وجود تخطيط استراتيجي مبني على تحليل البيئة الداخلية والخارجية، وثانيها بناء القدرات المهنية للعاملين في المجال من خلال التدريب والتعليم المستمر، وثالثها الاعتماد على البحوث والرصد الإعلامي لفهم اتجاهات الرأي العام المحلي والدولي تجاه مصر وقضاياها، إذ تتحول العلاقات العامة في هذا السياق من أداة تنفيذ إلى أداة لصنع القرار الوطني، ومن مهنة اتصال إلى علم يُسهم في رسم السياسات العامة للدولة. غير أن التحدي الأكبر في بناء منظومة العلاقات العامة المصرية يكمن في الانتقال من الاتصالية الدفاعية إلى الاتصالية الإبداعية؛ أي من مجرد الرد على ما يُقال عن مصر إلى صناعة رواية جديدة عنها. فالعلاقات العامة الحقيقية لا تنتظر الهجوم لترد، بل تخلق واقعًا إيجابيًا تتحدث عنه العقول والقلوب معًا. وهذا التحول يتطلب وعيًا سياسيًا وثقافيًا، وقدرة على قراءة المشهد العالمي والوطني في آنٍ واحد. ولأن نجاح هذه الصناعة يستلزم بنية مؤسسية واضحة، فإن الخطوة الأولى في التطبيق تتمثل في إعادة هيكلة منظومة العلاقات العامة داخل مؤسسات الدولة، لم يعد مقبولًا أن تكون إدارات العلاقات العامة مجرد وحدات شكلية تُصدر بيانات أو تنظم فعاليات، بل يجب أن تتحول إلى وحدات استراتيجية تشارك في صنع القرار وتقديم المشورة الاتصالية للقيادة، هذه الوحدات ينبغي أن تكون مرتبطة مباشرة بمكاتب كبار المسؤولين لضمان التكامل بين الرسالة المؤسسية والرؤية الوطنية. ومن أجل ضمان التنسيق على المستوى الوطني، ينبغي إنشاء مجلس وطني أعلى للعلاقات العامة والتواصل الاستراتيجي، يعمل كمظلة مركزية تنسّق كل الجهود الاتصالية الحكومية والإعلامية والثقافية والاقتصادية، يتولى المجلس وضع المعايير الأخلاقية والمهنية للممارسة، ويصدر تقارير دورية عن صورة مصر في الإعلام المحلي والدولي، ويقود حملات استراتيجية كبرى تخدم أولويات الدولة مثل التنمية المستدامة، والتعليم، والتحول الرقمي، وتمكين الشباب، والهوية الثقافية المصرية، كما يجب أن يعمل هذا المجلس كبيت خبرة وطني في مجالات تحليل الخطاب والرأي العام وإدارة الأزمات. وفي موازاة ذلك، تحتاج مصر إلى بناء قاعدة تعليمية وتدريبية متينة تُخرّج متخصصين قادرين على التعامل مع متغيرات الاتصال الحديث، أما على الصعيد الثقافي والاجتماعي، فينبغي أن تمتد صناعة العلاقات العامة المصرية إلى المجال الإنساني والحضاري، لتشمل الفن والثقافة والتعليم، والمبادرات المجتمعية والتفاعل الإنساني بين المواطن ومؤسسات الدولة، لا أن تقتصر فقط عبر الإعلام. ومن الجوانب الحاسمة في نجاح المنظومة وضع إطار تشريعي وتنظيمي حديث ينظم مهنة العلاقات العامة في مصر، ويضمن شفافية الممارسة ومهنيتها، يجب أن يتضمن هذا الإطار ميثاقًا وطنيًا لأخلاقيات المهنة، يحدد واجبات العاملين وحقوقهم، ويضع ضوابط لممارسات المؤسسات الخاصة والحكومية، حتى تظل العلاقات العامة جزءًا من القوة التنظيمية للدولة، لا أداة تزيين أو دعاية وقتية. بهذا النهج المتكامل، تتحول العلاقات العامة المصرية من نشاط دعائي إلى أداة قيادية واستراتيجية تشارك في صنع القرار، وتعمل على ترسيخ الثقة بين الدولة والمواطن، وتعيد تعريف "الصورة المصرية" للعالم وفق معايير المصداقية والحداثة والإنسانية. لأن بناء هذه المنظومة لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تحالف وطني شامل يضم الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والجامعات ووسائل الإعلام والمبدعين، فالعلاقات العامة ليست مهمة مؤسسة بعينها، بل مسؤولية وطنية جماعية، نجاحها يعتمد على تكامل الخطاب الاتصالي بين كل أطراف المجتمع المصري، وعلى التزام الجميع بمفهوم "الاتصال كأداة بناء لا كوسيلة تجميل". وفي جوهر الأمر، صناعة العلاقات العامة المصرية الحديثة يجب أن تُعبّر عن مصر كدولة تتحدث بلغة العراقة والحداثة في آنٍ واحد، دولة تمتلك تراثًا حضاريًا عميقًا لكنها قادرة على التفاعل مع العالم الجديد بلغة العلم والتقنية والثقافة، إنها ليست فقط أداة تواصل، بل مشروع وطني لإدارة الصورة والوعي، يُعيد بناء الثقة، ويجدّد الخطاب، ويجعل من "مصر" فاعلًا اتصاليًا عالميًا يملك روايته الخاصة، وينقلها للعالم بوضوح وقوة ومصداقية. وبذلك، تصبح العلاقات العامة المصرية في معناها الحقيقي أداة سيادية ناعمة، وجسرًا بين الدولة والمواطن، وبين مصر والعالم، فهي تصنع الوعي الجمعي، وتعيد صياغة الحوار الوطني، وتقدّم مصر للعالم ليس فقط كدولة تمتلك تاريخًا، بل كأمة تمتلك المستقبل.