الإيمان بوجود الله مع الاعتقاد بقدرته وحكمته المطلقة، وبأنه خالق للكون والإنسان، وعلى عناية تامة بهما، يُمثل جوهر إنسانية الإنسان وأثمن ممتلكاته الروحية. وهو إرث الشرق العظيم الذي قالت تعاليم حكمائه وأنبيائه بأن الله هو الجمال والكمال والقدرة والحكمة المطلقة، وأن الإنسان ظاهرة متجاوزة لعالم المادة، وأنه يملك روحًا هي جزء من روح الخالق العظيم، وأن حياته الأرضية ليست نهاية المطاف؛ لأن له حياة أخرى بعد الموت تتجاوز وجوه العابر، ويتحدد مصيره فيها بناءً على سلوكه في الحياة التي عاشها على الأرض، متابعةً لمبدأ الثواب والعقاب. ومنذ البدايات الأولى للحياة الإنسانية كان هذا الإيمان هو طوق نجاة الإنسان وملجأه الأخير في مواجهة المحن والشدائد وابتلاءات وشرور العالم. كما كان هو المنبع الذي يفتح أمام الإنسان أبواب الأمل والحلم بالتغيير والإصلاح؛ لأن دوام الحال من المحال، ولأن الله عادل ورحيم لا يرضى الظلم لعباده، وهو أيضًا المنبع الذي يمنح روحه وقلبه وعقله القدرة على تحمل قبح وظلم الأمر الواقع عندما تعجز إرادته وهمته عن مواجهته. وأظن أن الإنسان المصري منذ فجر الحضارة المصرية القديمة قد استوعب على نحو تام هذه الأفكار حول الله والكون والإنسان والحياة والموت، وجعلها نورًا لعقله، ومتّكئًا لروحه، ودستورًا لحياته. وقد توارث المصريون هذه الأفكار عبر العصور والأديان المختلفة؛ فحصنت أرواحهم وقلوبهم وعقولهم ضد مظاهر التشاؤم وتماثل البدايات بالنهايات والإحساس بالعدمية والعبثية وغياب المعنى، التي عرفتها حضارات أخرى، وجد حكماؤها وفلاسفتها في الركون للحل الإيماني لمعضلات الوجود الإنساني ومشكلة وجود الشر في العالم قفزة غير عقلانية للمجهول. والجدير بالذكر هنا، أن أديبنا العظيم الراحل نجيب محفوظ هو سليل هذا الإيمان الفطري بالله، وسليل هذا الميراث الروحي المصري العظيم. وهذا الجانب في شخصيته هو سر تفاؤله المستمر، وسر إدراكه لمعنى وغاية وجوده، وقيامه بعمل الواجب لأنه واجب فقط من دون انتظار جزاء من أحد. ورغم بعض مظاهر الشك التي راودت نجيب محفوظ في فترة مبكرة من حياته، وجعلته يطرح سؤال الإيمان بقوة أمام عقله، إلا أنه لم يحسم هذا السؤال سلبًا أو إيجابًا، ولم يتجاوزه بشكل نهائي ويتحول إلى موقف الشكاك اللاأدريين الذين علقوا الحكم في هذه القضية، لعجز وقصور أدواتهم عن البحث فيها. ويُمكن أن نجد تعبيرًا عن هذه الفترة من حياته فيما قاله على لسان "كمال عبد الجواد" بطل الثلاثية والمعادل الأدبي لشخصية نجيب محفوظ ذاته: "إن سؤال الإيمان لديه لم يتحدد بعد، ولكنه لم يتبدد أيضًا". ولهذا ظل نجيب محفوظ يفكر في سؤال الإيمان ويبحث عن الله بطريقته الخاصة عبر تأملاته وحياته وأعماله، حتى وصل إلى إجابة يطمئن لها قلبه وعقله، ومستلهِمًا فيها من دون شك حكمة المصريين الإيمانية المتوارثة عبر العصور. وقد لخص نجيب محفوظ بعبقرية إجابته تلك، عندما قال في تأملاته الأخيرة على لسان الشيخ عبد ربه التائه في أصداء سيرته الذاتية: "الحمد لله الذي أنقذنا وجوده من العبث في الدنيا ومن الفناء في الآخرة".