وقعت سلطة نوري السعيد معاهدة معروفة "بمعاهدة بغداد" مع بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان، فأثارت موجة من التظاهرات والاحتجاجات في المنطقة. وفي سنة 1955م، طُرِدَ عبدالرحمن منيف من العراق لنشاطاته السياسية قبل اكتمال دراسته الجامعية، فواصل دراسته في جامعة القاهرة. وعاصر تأميم الرئيس جمال عبدالناصر لقناة السويس، وعاش وشاهد عن قرب الهجمات الإنجليزية – الفرنسية والإسرائيلية سنة 1956م. كوّن منيف في تلك المرحلة العراقية المصرية ثقافة خارج الأطر السياسية والحقوقية، إذ كان يرتاد المسارح، ويلتقي المثقفين المصريين أمثال رجاء النقاش وأحمد عبدالمعطي حجازي وأبو المعطي أبو النجا وسليمان فياض، ويقرأ الفن الروائي، وعلى نحو خاص روايات جرجي زيدان التاريخية وروايات نجيب محفوظ الاجتماعية الواقعية. وحصل منيف على شهادة الحقوق، وظفر بمنحة حزب البعث، حيث سافر عام 1958م إلى يوغسلافيا للدراسات العليا، وتابع دراسته في جامعة بلغراد فحصل سنة 1961م على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية في اختصاص: اقتصاديات النفط – الأسعار والأسواق. وحتى ذلك الوقت، قد وصلت الحماسة القومية العربية إلى أوجها، وكان تأميم القطاع النفطي على رأس أجندة الحزب العراقي الشيوعي البعثي، وكان الحزب يعد الرجال الأكفاء الذين يتمكنون من إدارة هذا القطاع بعد عودته إلى أرض العرب. ولما استولى الحزب على الحكم في سورية والعراق سنة 1963م، في وقت واحد تقريبًا، ندّد منيف بالعنف والشدة اللذين اتخذهما الحزب في سبيل استيلائه على الحكم، وصوّب سهام نقده اللاذع له، وهذا ما أدى إلى منع حكومة "صالح العيد" له من دخول العراق في وقت كانت الحاجة ماسة إليه، وذلك لأن السعودية قد نزعت منه الجنسية السعودية سنة 1963م على أساس أنه خطر على المملكة بسبب انتمائه لحزب البعث العربي الاشتراكي ومواقفه السياسية، حيث كان ينشر مقالات نقدية للأنظمة الخليجية، خاصة أثناء دراسته في العراق ووجوده في سوريا. وعندما أطاحت بحكومة حزب البعث في ثورة مماثلة في العراق، اتجه نحو سورية حيث كان الحزب ما يزال يأخذ بزمام الحكم، واشتغل بها في وزارة النفط من سنة (1964 – 1973م) بصفته خبيرًا اقتصاديًا. ولكن يبدو أن بقاءه في يوغوسلافيا قد حوله، وزرع في نفسه بذور التشكيك والفكرة المتسائلة، إلى أن صار صعبًا عليه أن يبقى عضوًا في الحزب، وأصبح صوتًا ناشزًا بين الأعضاء. فاستقال من عضويته في حزب البعث في سنة 1965م ولكنه بقى مؤيدًا للتغيير الجذري والثوري في أرض العرب. والأعوام التي تلت الهزيمة للعرب في حرب الأيام الستة أثرت في نفس منيف تأثيرًا عميقًا، وكتب على إثرها الكتاب الأول، وهو وثيقة مدعومة بالأدلة حول مستقبل النفط في أرض العرب. وقد نشر هذا المؤلف في بيروت سنة 1974م، وذكر فيه الكثير من السياسات الأساسية والمشاريع التي نفذها حزب البعث فيما بعد. وفي سنة 1973م قصد لبنان وعمل في مجلة "البلاغ" ككاتب مقالات وتحليلات سياسية واقتصادية، وهي واحدة من المنابر التي أتاحت له التعبير عن آرائه الجريئة في قضايا النفط، والحرية، والسلطة في العالم العربي. وفي سنة 1975م انتقل منيف إلى العراق لاشتغاله في مكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس القيادة الثورية بعد نشر روايته "الشرق الأوسط"، ثم عُين أحد أعضاء الزعامة المؤيدة للقومية العربية للاتحاد الدولي البعثي وتولّى رئاسة تحرير مجلة "النفط والتنمية" في بيروت حتى سنة 1981م، والتي كان يتم تمويلها من قبل الحكومة، وأصدرت سلسلة لدراسته السابقة لصانعة النفط المعروف ب "تأميم النفط العربي". والشيء بالشيء يذكر أنه أثناء فترة رئاسة منيف لمجلة "النفط والتنمية" كان يهاجم السياسات النفطية للدول الخليجية، ومنها السعودية، وينتقد غياب العدالة الاجتماعية والاعتماد المفرط على الغرب. وخص بالنقد شركة أرامكو بشكل واضح ومباشر، حيث كتب مقالات تحليلية تنتقد الشركات النفطية الكبرى مثل أرامكو، وتدين الهيمنة الأجنبية على الثروات النفطية العربية، والصفقات غير العادلة بين الحكومات وشركات النفط الغربية. ووصل إلى أن هذه عملية نهب ثروات الخليج، وهاجم ما اعتبره "تبعية الحكومات الخليجية للولايات المتحدة"، مما وضعه في مواجهة مباشرة مع السياسات الرسمية. ثم غادر العراق إلى فرنسا وتفرغ للعمل الأدبي. في سنة 1986م عاد إلى سوريا واستقر في دمشق حيث أقام حتى اليوم الأخير من حياته، متفرغًا للعمل الأدبي ومشاركًا في هيئة تحرير (قضايا وشهادات) كتاب ثقافي دوري يصدر فصليًا... وماذا عن إنتاجه الأدبي الذي كان أداته للتغيير الذي يحلم بأن يراه على أرض العرب؟ ولمن وجه رواياته "مدن الملح" بأجزائها الخمسة وثلاثية "أرض السواد"؟ وما هو التساؤل الذي وجهه منيف في نهاية روايته "عالم بلا خرائط" ولمن وجهه؟ إجابتنا عن هذه التساؤلات ستكون موضوع مقالنا القادم إن قدر الله لنا البقاء واللقاء. [email protected]